=قول معاذ رضي الله عنه كنت ردف النبي ﷺ ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل
فالردف هو بكسر الراء وإسكان الدال وهو الراكب خلف الراكب
ومؤخرة الرحل هي التي خلف الراكب يستند إليها والأكثر الأغلب تسميتها أأخرة الرحل وهي مؤخرة الرحل بميم مضمومة ثم همزة ساكنة ثم خاء مكسورة خفيفة وقالها بعض الرواة بفتح الهمزة وفتح الخاء المشددة وهو غالب على ألسنة الطلبة وليس ذلك بثابت
وحكى القاضي عياض رحمه الله وإيانا في ذلك في كتابيه مشارق الأنوار وإكمال المعلم عن ابن مكي أنه أنكر الكسر وقال لا يقال مقدم ولا مؤخر بالكسر إلا في العين يعني قولهم مقدم العين ومؤخرها
قلت وهذا الذي حكاه عن أبي حفص عمر ابن مكي الصقلي صاحب كتاب ما تلحن فيه العامة معروف عن الخليل ومن تقدم من أهل اللغة
وما توهمه القاضي من كونه مخالفا لما تقدم ذكره وهم منه فإن ذلك كلام في مقدم ومؤخر بغير تاء التأنيث والمراد به أنه لا يقال مؤخر السفينة وغيرها ومقدمها بالكسر بل مؤخرها ومقدمها بالفتح والتشديد وليس في ذلك تعرض لمؤخرة الرحل بتاء التأنيث وهما نوعان فاعلم ذلك والله اعلم
قوله ﷺ لمعاذ هل تدري ما حق العباد على الله وجهه مع كونه سبحانه وتعالى يتعالى عن أن يستحق عليه أحد حقا أنه لما كان ما وعد به يوجد لا محالة ولا يقع تركه صار كالحق الذي لا يسيغ تركه فأطلق عليه لفظه
وإخبار معاذ بذلك عند موته تأثما أي تجنبا للإثم مع أن النبي ﷺ منعه من أن يخبر به الناس وجهه عندي أنه منعه من التبشير العام خوفا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل ومع ذلك أخبر ﷺ به على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة بالحقائق فإنه أخبر به معاذا فسلك معاذ هذا المسلك وأخبر به من الخاصة من رآه أهلا لذلك تأثما من أن يكتم علما أهله والله أعلم
وأما حديث أبي هريرة المذكور بعد هذا وما فيه من خلاف حديث معاذ من أمر رسول الله ﷺ أبا هريرة بأن يبشر بالجنة من لقي ممن يشهد أن لا إله إلا الله وقول عمر أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون وقوله ﷺ فخلهم
فأقول إن ذلك من قبيل تغير الاجتهاد وقد كان القول بالاجتهاد جائزا له وواقعا منه عند المحققين وله المزية على سائر المجتهدين بأنه لا يقر في اجتهاده على الخطأ
وقد روى الثقات في حديث أم سلمة المعروف أنه ﷺ قال إني إنما اقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه ومن نفى ذلك وقال لم يكن له القول في الأمور الدينية إلا عن وحي فليس بممتنع أن يكون قد نزل عليه عند مخاطبة عمر له وحي بما أجابه به ناسخ لوحي سبق بما قاله أولا ﷺ والله ورسوله أعلم
قوله في الرواية الثانية كنت ردف رسول الله ﷺ على حمار يقول له عفير
هذا يقتضي أن يكون ذلك في مرة أخرى غير المرة المذكورة في الرواية الأولى فإن مؤخرة الرحل يختص بالإبل ولا تكون على حمار وعفير هو بضم العين المهملة وبالفاء وهو الحمار الذي كان له ﷺ قيل إنه مات في حجة الوداع وقال القاضي عياض إنه بغين معجمة متروك عليه والله أعلم
قوله شعبة عن أبي حصين هو بحاء مهملة مفتوحة بعدها صاد مهملة وفي آخره نون وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي وليس في الصحيحين حصين وأبو حصين بالفتح سوى هذا والله أعلم
وفي رواية أبي حصين المذكورة يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قال الله ورسوله أعلم قال أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا
وقع في الأصول شيئا بالنصب
قلت هو صحيح على التردد في قوله يعبد الله ولا يشرك به بين وجوه ثلاثة
أحدها يعبد الله بفتح الياء التي للمذكر الغائب أي يعبد العبد الله ولا يشرك به شيئا وهذا أوجه الوجوه
الثاني تعبد بالتاء التي هي للمخاطب على التخصيص لمعاذ لكونه المخاطب والتثنية به على غيره
الثالث يعبد بضم أوله على ما لم يسم فاعله ويكون قوله شيئا كناية عن المصدر لا عن المفعول به
أي لا يشرك به إشراكا وتكون الجار والمجرور في قوله به هو القائم مقام الفاعل وإذ لم تعين الرواة شيئا من هذه الوجوه فحق على من يروي هذا الحديث منا أن ينطق بها كلها واحدا بعد واحد ليكون آتيا بما هو المقول منها في نفس الأمر جزما والله أعلم
قول أبي هريرة رضي الله عنه فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة والربيع الجدول فاحتفرت كما يحتفر الثعلب فدخلت على رسول الله ﷺ
فقوله من بئر خارجة هو بالتنوين في خارجة وكذا في الأصل الذي هو بخط أبي عامر العبدري وفي الأصل المأخوذ عن الجلودي
وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بقراءتي عليه عن الحافظ المتقن أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصبهاني رحمه الله قال قوله من بئر خارجة يروى على وجوه
يقال من بئر خارجة وبئر خارجة بئر معروف منسوبة إلى خارجة
فالرواية الثانية التي ذكرها أبو موسى هي بإضافة خارج إلى هاء الضمير أي البئر في موضع خارج عن الحائط
والرواية الثالثة البئر فيها منسوبة إلى رجل اسمه خارجة والله أعلم
قوله الربيع الجدول فالربيع هو على لفظ الربيع الزماني
والجدول هو النهر الصغير وقوله فاحتفرت هو بالراء المهملة محققا في الأصل المأخوذ عن الجلودي والأصل الذي بخط العبدري وهي الرواية الأكثر
ورواه بعضهم بالزاي المنقوطة وكذلك وجدته في كتاب أبي نعيم المخرج على هذا الكتاب في الأصل المأخوذ عنه ومعناه تضاممت وهذا أقرب من حيث المعنى ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب وهو تضامه للدخول في المضايق والله أعلم
قوله بين ظهرينا وهو بفتح الراء وإسكان الياء بعدها قال الأصمعي وغيره يقال بين ظهريهم وظهرانيهم أي بفتح النون معناه بينهم وبين أظهرهم وهو في بعض النسخ بين أظهرنا والله أعلم
قول أبي هريرة فأجهشت بكاء يقال جهشت وأجهشت جهشا وإجهاشا وهو فيما ذكره أبو عبيد وغيره أن يفزع الناس إلى غيره وهو مع فزعه كأنه يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وأبيه وقد تهيأ للبكاء
وزاد بعضهم بيانا فقال هو أن يفزع إلى آخر وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد وقوله بكاء مفعول له وقد جاء في حديث فأجهشت للبكاء والله أعلم
قوله وركبني عمر وإذا هو على أثري أي لحقني في الوقت من غير تمهل وقوله أثري يقال بفتح الهمزة والثاء جمعيا وبكسر الهمزة وإسكان الثاء والله أعلم
قلت ودخول أبي هريرة الحائط من غير إذن صاحبه على ما دل عليه ظاهر الحال مع تقرير النبي ﷺ إياه على ذلك يدل على جواز مثل ذلك عند العلم برضى المالك وإن لم يتلفظ بالإذن
وضربة عمر المفضية إلى سقوط أبي هريرة يحمل على أنه دفع في صدره ليرده فانصدم لإسراعه أو نحو ذلك فوقع من غير تعمد من عمر لذلك وهي واقعة عين ووقائع الأعيان تتردد بين ضروب من الاحتمالات والله أعلم
قوله لبيك وسعديك فيه لأهل العربية واللغة أقوال
فقيل معنى لبيك إجابة لك بعد إجابة
وقيل لزوما لطاعتك وإقامة عليها بعد إقامة من قولهم ألب بالمكان ولب به إذا أقام به ولزمه
ومعنى سعديك إسعادا لك بعد إسعاد والإسعاد الإعانة والتثنية فيهما للتكرير والتأكيد والله أعلم
قول مسلم رحمه الله وإيانا حدثنا شيبان بن فروخ
ففروخ هو بفتح الفاء وتشديد الراء وبالخاء المنقوطة وهو عجمي غير منصرف وقد ذكر صاحب كتاب العين اسم ابن لإبراهيم ﷺ هو أبو العجم والله أعلم
وعتبان بن مالك بكسر العين على مثال عمران والله أعلم
مالك بن الدخشم هو من الأنصار حكى أبو عمر بن عبد البر اختلافا في شهوده العقبة وقال لم يختلفوا أنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وقال لا يصح عنه النفاق وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من إتهامه
قلت وهو ابن الدخشم بدال مهملة مضمومة ثم خاء معجمة ساكنة ثم شين مثلثة مضمومة ثم ميم وقيل فيه الدخشن بالنون ويقال أيضا الدخشن بكسر الدال وكسر الشين وجاء مصغرا ومكبرا فيهما غير أن الواقع فيه في روايتنا في كتاب مسلم وفي أصولنا به في رواية مسلم الأولى بالميم مكبرا وهو في أكثرها بغير ألف ولام في هذه الرواية
وهو فيها في الرواية الثانية مصغرا وبالميم أيضا وبالألف واللام إلا في أصل أبي حازم الحافظ بخطه فإنه مكبر فيه في الثانية أيضا والله أعلم
قوله يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك معناه إنهم تحدثوا وشكوا ما يلقون من المنافقين ونسبوا معظم ذلك إلى مالك
وعظم ذلك هو بضم العين وإسكان الظاء أي معظمه
وكبره بمعنى ذلك وهو بضم الكاف ويجوز بكسرها والله أعلم
وما في الحديث من أن من أتى بالشهادتين لا يدخل النار قد قال الزهري فيه ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر
وهذا غير مقنع فقد كانت الصلاة وغيرها من الفرائض نزلت قبل ذلك ومعنى الحديث ما سبق في حديث معاذ والله أعلم
أبو عامر العقدي هو بالعين المهملة والقاف المفتوحين واسمه عبد الملك بن عمرو
والعقد بطن من بجيلة وقيل بطن من قيس وروى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي فقال حدثنا أبو عامر القيسي والله أعلم
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال الإيمان بضع وسبعون شعبة
فالبضع هو بكسر الباء ويقال أيضا بفتحها وكذا البضعة في قولنا بضعة عشر وشبه ذلك
واختلف في ذلك أئمة اللغة وفي بعض تفسيرهم له إشكال أنا أوضحه إن شاء الله تعالى
فقيل هو من ثلاث إلى تسع وهذا هو الأشهر
وقيل ما بين اثنين إلى عشر والظاهر أن هذا تفسير للأول
فيكون البضع مستعملا في الثلاث دون ما قبله غير مستعمل في العشر
وقيل ما هو بين الثلاث إلى العشر والظاهر أن هذا هو ما حكاه أبو عمر الزاهد اللغوي أنه من أربع إلى تسع
وكذا قول الفراء إنه ما بين الثلاثة إلى ما دون العشرة
فعلى هذا لا يستعمل في الثلاث ولا في العشر أيضا
وقد بلغ بالبضع المذكور في هذا الحديث بعض من فصل شعب الإيمان سبعا أو تسعا والله أعلم
وقوله شعبة أي خصلة وأصله من الشعبة بمعنى القطعة
ثم إن مسلما روى هذا الحديث من حديث سهيل بن أبي صالح عن عبدالله ابن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة على الشك فقال بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة
وهذا الشك فيما ذكره أبو بكر البيهقي الحافظ وقع من سهيل وقد روي عن سهيل بضع وسبعون من غير شك قطعا بالأكثر أخرجه أبو داود في كتابه
وأما سليمان بن بلال فإنه رواه عن عبدالله بن دينار على القطع من غير شك
وهي الرواية الصحيحة أخرجاها في الصحيحين
غير أنها فيما عندنا من كتاب مسلم بضع وسبعون قطعا بالأكثر وهي فيما عندنا من كتاب البخاري بضع وستون قطعا بالأقل
وقد نقلت كل واحدة منهما عن كل واحد من الكتابين ولا إشكال في أن كل واحدة منهما رواية معروفة في روايات هذا الحديث
واختلفوا في الترجيح بينهما والأشبه بالإتقان والاحتياط ترجيح رواية الأقل ومنهم من رجح رواية الأكثر وإياها اختار الإمام أبو عبد الله الحليمي فإن الحكم لمن حفظ الزيادة جازما بها
ثم إن الكلام في تعيين هذه الشعب يتشعب ويطول وقد صنفت في ذلك مصنفات من اغزرها فوائد كتاب المنهاج لأبي عبد الله الحليمي إمام الشافعيين ببخارى وكان من رفعاء أئمة المسلمين
وحذا حذوه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي في كتابه الجليل الحفيل كتاب شعب الإيمان وعينت شعب كثيرة منها الاستنباط والاجتهاد والقطع على مراد رسول الله ﷺ في كثير منها عسر صعب وقد ضبطت ما أمليته من وجوه الاختلاف في ذلك حديثا ولغة ضبطا متينا عزيزا ولله الحمد وهو أعلم
قوله ﷺ الحياء من الإيمان:
وجهه أن ما كان منه تخلقا فهو عمل يكتسب كسائر أعمال الإيمان وما كان منه غريزة وطبعا فهو منشأ لأعمال كثيرة من أعمال الإيمان وهذا الحيآء ممدود وترك المد فيه لحن يحيل المعنى فإنه من غير مد عبارة عن المطر وعن الخصب أيضا والله أعلم
حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ الحيآء لا يأتي إلا بخير وفي رواية الحياء خير كله
قول بشير بن كعب لعمران إنا نجد في بعض الكتب إن منه ضعفا وإنكار عمران وغضبه عليه في ذلك قد يختلج في النفس منه شيء من جهة أن صاحب الحيآء قد يستحي ان يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
وقد يخل بحق عليه لعارض من الحياء اعترض وليس من الخبر وهذا مندفع لأن ذلك إنما هو خور وعجز ومهانة وليس من الحياء إنما الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا وقد روينا عن الجنيد رضي الله عنه أنه سئل عن الحياء فقال رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء
وقوله حتى احمرتا عيناه كذا وقع وكذا رويناه وهو على لغة من قال أكلوني البراغيث أو على البدل كما في قوله تبارك وتعالى وأسروا النجوى الذين ظلموا والله أعلم
رواة حديث عمران عنه في الكتاب أحدهم أبو السوار بفتح السين وتشديد الواو وهو العدوي بصري ذكر البخاري وغيره أن اسمه حسان بن حريث وعرفه البخاري بروايته لهذا الحديث
وأبو قتادة وهو العدوي بصري اسمه تميم بن نذير بضم النون وفتح الدال المنقوطة وفي اسمه واسم أبيه اختلاف والله أعلم
وحجير بن الربيع العدوي بحاء مهملة في أوله مضمومة وراء مهملة في آخره
والراوي عنه أبو نعامة العدوي بصري اسمه عمرو بن عيسى وهو من الثقات الذين اختلطوا قبل موتهم والله أعلم
أبو نجيد كنية عمران بنون مضمومة في أوله ثم جيم وفي آخره دال مهملة وهو مصغر بشير بن كعب المذكور عدوي بصري وهو بضم الباء الموحدة وفتح الشين وليس في الصحيحين بهذا الاسم سواه وسوى بشير بن يسار والله أعلم
أبو الخير الراوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص هو مرثد بالثاء المثلثة ابن عبد الله اليزني المهري الحميري المصري ويزن بالياء المثناة من تحت والزاي المنقوطة المفتوحتين ومهرة قبيلتان من حمير والله أعلم
قوله ﷺ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
المراد به المسلم الكامل والأفضل من سلموا منه وهذا من ألفاظ الحصر التي تطلق على الكامل والمراد بها نفي الكمال عن ضد المذكور لا نفي حقيقة ذلك من أصله عن ضده كما يقال العلم ما نفع أو لا علم إلا ما نفع في نظائر لذلك كثيرة
وقد أفصح عن صحة ما ذكرناه قوله في الرواية الأخرى سئل رسول الله ﷺ أي المسلمين أفضل فقال من سلم المسلمون من لسانه ويده
ثم إن المراد بذلك من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها تكون والله أعلم
ثم كمال الإسلام والمسلم متعلق بما ذكر ويغيره من خصال أخر كثيرة معلومة وخص ﷺ في جواب السائل المذكور السلامة من اللسان واليد بالذكر وخص في جواب السائل المذكور في الحديث الذي قبله بالذكر إطعام الطعام وإفشاء السلام وذلك على حسب الحاجة إلى البيان بالنظر إلى حال السائل وباعتبار الحالة الراهنة فاعلم ذلك والله أعلم
بريد بن عبد الله هو بباء موحدة مضمومة في أوله وبعدها راء مهملة يكنى أبا بردة وهو أبو بردة ابن عبد الله المذكور في الإسناد الذي قبله وجده أبو بردة بن أبي موسى الأشعري اسمه عند الأكثرين عامر وعند يحيى بن معين أن اسمه الحارث والله أعلم
قوله حدثنا شيبان بن أبي شيبة وهو شيبان بن فروخ الذي حدث عنه في غير موضع والله أعلم
وروى مسلم حديث أنس أن النبي ﷺ قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه
ورواه البخاري حتى يحب لأخيه فحسب من غير شك
وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه والله أعلم لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا أجمعين آمين
وقد روينا عن أبي محمد عبد الله بن أبي زيد الفقيه إمام المالكية بالمغرب الأدنى رحمه الله أنه قال جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث قول النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
وقوله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
وقوله للذي اختصر له في الوصية لا تغضب
وقوله المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه والله أعلم
قوله ﷺ لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه أي غوائله ودواهيه وشروره وهي جمع بائقة
ومعنى قوله لا يدخل الجنة مع ما ثبت من أن كل مسلم لا بد أن يدخل الجنة وإن دخل النار إنه يدخلها وقت دخول أهلها إليها وإذا فتحت أبوابها للمتقين إلا أن يعفو الله تبارك وتعالى
وقوله فلا يؤذي جاره كذا وقع وكذا رويناه بإثبات الياء على لفظ الخبر وقد جاء مثله في كثير من الأحاديث
والمراد النهي ويأتي ذلك أيضا بلفظ النهي والجميع سائغ والله أعلم
روى مسلم حديث أبي سعيد الخدري من رأى منكم منكرا فليغيره
وقال حدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد الخدري ح وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري
فقوله وعن قيس بن مسلم معطوف على قوله عن إسماعيل أي رواه الأعمش عن إسماعيل وقيس والله أعلم
روى مسلم بإسناده عن صالح بن كيسان عن الحارث بن فضيل بإسناده عن أبي رافع عن عبد الله بن مسعود ما اختصاره أن رسول الله ﷺ قال ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
قال أبو رافع فحدثت عبد الله بن عمر فأنكره علي فقدم ابن مسعود فنزل بفنائه فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر قال فلما جلسنا سألت ابن مسعود فحدثنيه كما حدثت ابن عمر
قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع
فقوله حواريون قيل حواريوا الأنبياء أنصارهم وقيل هم خلصانهم وأصفياؤهم وقيل هم المجاهدون وقيل الذين يصلحون للخلافة بعدهم
وسنعود إن شاء الله تبارك وتعالى إلى الكلام فيه
وقوله ثم إنها تخلف هذا الضمير هو ضمير القصد والشأن وقوله خلوف بضم الخاء جمع خلف بسكون اللام وهو الخالف بشر وهو بفتح اللام بخير وقد حكى غير واحد الوجهين معا فيهما والله أعلم
وقوله فنزل بفنائه بكسر الفاء وبالمد وجمعه أفنية وهي ما بين أيدي المنازل والدور من البراح هكذا وقع في روايتنا في هذا الكتاب
وفي كتاب أبي عوانة الإسفراييني المخرج عليه وهي رواية أكثر رواة الكتاب وفي رواية أبي الفتح السمرقندي الشاشي بقناة بالقاف على لفظ قناة الرمح
وكذا رواه أبو عبد الله الحميدي في كتابه الجمع بين الصحيحين
وكذا كان في أصل الحافظ أبي عامر العبدري بخطه وهو برواية السمرقندي وفي أصل الحافظ أبي القاسم العساكري وكان هذا منه أولا على رواية السمرقندي ثم غير ذلك فيهما جعل بفنائه وقناة بالقاف وهو الأشبه
وقد ذهب القاضي أبو الفضل اليحصبي إلى أن الأول وإن كان رواية الجمهور فهو خطأ وتصحيف وإنما هو قناة وهو اسم واد من أودية المدينة عليه حرث ومال من أموالها والله أعلم
قول صالح وقد تحدث بنحو ذلك هو بضم المثناة من فوق وفيه إشعار بأن الحارث بن فضيل قد توبع على ذلك والله أعلم
قوله الرواية الأخرى يهتدون بهديه هو بفتح الهاء وإسكان الدال أي بطريقته وسمته والله أعلم
قول مسلم اجتماع ابن عمر معه وهذا مما أنكره صاحب درة الغواص في أوهام الخواص وقال لا يقال اجتمع فلان مع فلان وإنما اجتمع فلان وفلان والله أعلم
ثم إن هذا الحديث مما انفرد به مسلم عن البخاري وقد أنكره أحمد بن حنبل فيما بلغنا عن أبي داود السجستاني في مسائله عن أحمد قال الحارث بن فضيل ليس بمحفوظ الحديث وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود وذكر أحمد قوله ﷺ اصبروا حتى تلقوني
قلت قد روى عن الحارث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء وفي كتاب ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه ثقة
ثم إن الحارث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح بن كيسان المذكور وذكر الإمام الدارقطني في كتاب العلل إن هذا الحديث قد روي من وجوه أخر منها عن أبي واقد الليثي عن ابن مسعود عن رسول الله ﷺ
وأما قوله اصبروا فذلك حيث يلزم من ذلك إثارة الفتنة وسفك الدماء ونحو ذلك وما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة على أن لفظ هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر هذه الأمة والله أعلم
حديث أبي مسعود البدري أشار النبي ﷺ بيده نحو اليمن فقال ألا إن الإيمان ها هنا وأن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر
وفي رواية أبي هريرة جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية
وفي رواية هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا
وفي رواية هم ألين قلوبا وأرق أفئدة
وفي رواية مالك لحديث أبي هريرة رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم
وفي رواية جابر غلظ القلوب والجفاء في المشرق والإيمان في أهل الحجاز
أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى اليمن وأهله فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة ثم المدينة حرسهما الله
فحكى أبو عبيد إمام الغريب ثم من بعده في ذلك أقوالا
أحدها أن المراد بذلك مكة فإنه يقال إن مكة من تهامة ويقال إن تهامة من أرض اليمن
والثاني إن المراد مكة والمدينة فإنه يروى في الحديث أن النبي ﷺ قال هذا الكلام وهو يومئذ بتبوك ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة فقال الإيمان يمان ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة إلى ناحية اليمن
الثالث ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب إليهم لكونهم أنصاره
وأنا أقول والله الموفق لو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه ولما تركوا الظاهر ولقضوا بأن المراد بذلك اليمن وأهل اليمن على ما هو مفهوم من إطلاق ذلك إذ من ألفاظه أتاكم أهل اليمن والأنصار من جملة المخاطبين بذلك فهم إذا غيرهم
وكذلك قوله جاء أهل اليمن وإنما جاء حينئذ غير الأنصار ثم إنه وصفهم ﷺ بما يقضي بكمال إيمانهم ورتب عليه قوله الإيمان يمان فكان ذلك نسبة للإيمان إلى من أتاهم من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة
ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة لأن من اتصف بشيء وقوى قيامه به وتأكد اضطلاعه به نسب ذلك الشيء إليه إشعارا بتميزه به وكمال حاله فيه
وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان وحال الوافدين منهم في حياته ﷺ وفي أعقاب موته كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني وأشباههما ممن سلم قبله وقوى إيمانه فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي لذلك عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله الإيمان في أهل الحجاز
ثم إن المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فإن اللفظ لا يقتضيه هذا والله أعلم
هذا هو الحق في ذلك ونشكر الله سبحانه على هدايتنا له والله أعلم
وأما ما ذكر من الفقه والحكمة فالفقه ها هنا هو عبارة عن الفهم في الدين واصطلح بعد ذلك الفقهاء والأصوليون على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها
وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة وقد صفا لنا منها إن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل والحكيم من له ذلك
أخبرنا الشيخ أبو الحسن بن محمد النيسابوري قراءة عليه بها ونقلت من أصل سماعه وكان أصيلا قال أخبرنا جدي لأمي أبو محمد العباس بن محمد العصاري قال حدثنا القاضي أبو سعيد محمد بن سعيد لفظا قال أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي قال سمعت أبا الحسن علي بن الحارث البياري قال سمعت أبا سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي سمعت أبا بكر محمد بن الحسن الدريدي يقول كل كلمة وعظتك في آخرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم ومنه قول النبي ﷺ إن من الشعر حكمة وجاء في بعض الألفاظ حكما والله أعلم
قوله يمان ويمانية هو بالتخفيف من غير تشديد للياء عند جماهير أهل العربية لآن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة فلا يجمع بينهما
وقال ابن السيد في كتابه الاقتضاب في شرح أدب الكتاب حكى أبو العباس المبرد وغيره أن التشديد لغة
قلت وهذا غريب وإن كان هو المشهور المستعمل عند من لا عناية له بعلم العربية وقوله ألين قلوبا وأرق أفئدة فالمشهور أن الفؤاد هو القلب فعلى هذا يكون قد كرر ذكر القلب مرتين بلفظين وهو أولى من تكريره بلفظ واحد
وقيل الفؤاد غير القلب وهو عين القلب
وقيل الفؤاد باطن القلب
وقيل هو غشاء القلب
وأما وصفها بالرقة واللين والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين والله أعلم
وأما قوله في الفدادين فزعم أبو عمرو هو الشيباني أنها بتخفيف الدال وهي جمع فدان بتشديد الدال وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه
وعلى هذا فالمراد بذلك أصحابها فحذف ذلك
والصواب الفدادون بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة وهذا قول أهل الحديث وجمهور أهل اللغة الأصمعي وغيره وهو من الفديد وهو الصوت الشديد فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى هم المكثرون من الإبل الذي يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف والله أعلم
قلت وقوله في رواية أبي مسعود إن القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل معناه الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها وقوله حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر فقوله في ربيعة ومضر بدل من قوله في الفدادين أي القسوة في ربيعة ومضر الفدادين والله أعلم
وقرنا الشيطان جانب رأسه وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس وقيل شيعتاه من الكفار
والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قالوا في الحديث الآخر رأس الكفر نحو المشرق
وكان ذلك في عهده ﷺ حين قال ذلك ويكون حين يخرج الدجال من المشرق وهو فيما بين ذلك منشأ للفتن العظيمة ومثار للكفرة الترك العابثة العاتية الشديدة البأس والله أعلم
وقوله الفخر والخيلاء فالفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظما
والخيلاء الكبر واحتقار الناس
وقوله في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل فليس بممتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر وقوله والسكينة في أهل الغنم أي الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكر من صفة الفدادين والله أعلم
صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح
مقدمة | الفصل الأول | الفصل الثاني | الفصل الثالث | الفصل الرابع | الفصل الخامس | الفصل السادس | الفصل السابع | الفصل الثامن | الفصل التاسع | الفصل العاشر | تنبيهات | أحاديث الإيمان: 1 | 2 | 3 | 4 | أحاديث النهي عن الاستمطار بالأنواء | أحاديث ذكرها مسلم في ذم الكبر أعاذنا الله منه
ت