أصناف المغرورين
أصناف المغرورين أبو حامد الغزالي
أصناف المغرورين حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى
بسم الله الرحمن الرحيم
أصناف المغرورين حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى
بسم الله الرحمن الرحيم
• مقدمة المؤلف •
أصناف المغرورين o
0 غرور الكافر
o فصل فيمن يشاركون الكفار غرورهم من المؤمنين
o فصل فى غرور عصاة المؤمنين o فصل فى غرور من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه •
فصل فى بيان المغرورين وأقسام كل صنف
- الصنف الأول من المغرورين العلماء
-الصنف الثانى من المغرورين أرباب العبادات والأعمال
-الصنف الثالث من المغرورين أرباب الأموال
-الصنف الرابع من المغرورين المتصوفة
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم العامل حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى رحم الله وعفا عنه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقة سيدنا محمد وآله وصحبه هذا كتاب الكشف والتبيين فى غرور الخلق أجمعين. اعلم أن الخلق قسمان: حيوان وغير حيوان. والحيوان قسمان: مكلف ومهمل. فالمكلف من خاطبه الله بالعبادة وأمره بها. ووعده الثواب عليها ونهاه عن المعاصى وحذره العقوبة. ثم المكلف قسمان: مؤمن وكافر. والمؤمن قسمان طائع وعاص. وكل من الطائعين والعاصين ينقسم قسمين: عالم وجاهل. ثم رأيت الغرور لازما لجميع المؤمنين المكلفين والكافرين. إلا من عصمه الله رب العالمين. وأنا بحمد الله أكشف عن غرورهم وأبين الحجة فيه. وأوضحه غاية الإيضاح. وأبينه غاية البيان بأوجز ما تكون العبارة. وأبدع ما يكون من الإشارة. والمغرورون من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف:
صنف من العلماء, وصنف من العباد، وصنف من أرباب الأموال، وصنف من المتصوفة. غرور الكافر
فأول ما نبدأ به غرور الكافر وهو قسمان: منهم من غرته الحياة الدنيا. ومنهم من غره بالله الغرور. أما الذين غرتهم الحياة الدنيا وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة. ولذات الدنيا يقين. ولذات الآخرة شك!!. ولا يترك اليقين بالشك. وهذا قياس فاسد. وهو قياس إبليس لعنه الله تعالى فى قوله: أنا خير منه. فظن أن الخيرية فى النسب. وعلاج هذا الغرور شيئان إما بتصديق وهو الإيمان. وإما ببرهان. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله )وما عند الله خير وأبقى( )وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(. وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به. وأما البرهان: وهو أن يعرف وجه فساد قياسه. أن قوله: الدنيا نقد والآخرة نسيئة مقدمة صحيحة وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس. وليس الأمر كذلك. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار. والمقصود فهو خير. وإن كان أقل منها. فالنسيئة خير منه. ومعلوم أن الآخرة أبدية. والدنيا غير أبدية. وأما قوله: ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فهو أيضا باطل. بل ذلك يقين عند المؤمنين. وليقينه مدر كان: أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء. والمدرك الثاني: الوحى للأنبياء والإلهام للأولياء. ولا تظن أن معرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمور الآخرة. ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليه السلام. فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة. والنبي صلّى الله عليه وسلّم حاشاه الله من ذلك. بل انكشفت له الأشياء. وشاهدها بنور البصيرة. كما شاهدت أنت المحسوسات بالعين الظاهرة. فصل فيمن يشاركون الكفار غرورهم من المؤمنين بربهم والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أمر الله تعالى وهى الأعمال الصالحة.
وتدنسوا بالشهوات. وهم مشاركون الكفار فى هذا الغرور. فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميعا غرور: فأما غرور الكافرين بالله تعالى فمثاله: قول بعضهم فى أنفسهم بألسنتهم: إنه إن كان الله معيدنا فنحن أحق بها من غيرنا كما أخبر الله تعالى عنهم فى صورة الكهف حين قال: (ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً) ما سبب هذا الغرور وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه الله تعالى. وذلك انهم ينظرون مرة إلى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا. فيقيسون عليها نعم الآخرة ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم (ويقولون فى أنفسهم لو لا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء. فيزدرونهم ويقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا(. ويقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه(. وترتيب القياس الذى نظم فى قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعم الدنيا. وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن وليس كذلك. بل يكون محسناً ولا يكون محباً. بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على الاستدراج. وذلك محض الغرور بالله عز وجل. ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله تعالى يحمى عبده من الدنيا كما يحمى أحدكم مريضه عن الطعام والشراب وهو يحبه(. ولذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا. وقالوا: مرحبا بشعار الصالحين فقد قال الله تعالى: (فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه(. وقال تعالى: (أيحسبون أَنَّمَا نُمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون). الآية. وقال تعالى:(سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين(. وقال تعالى:(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(. فمن آمن بالله تعالى يأمن من هذا الغرور. ومم ينشأ هذا الغرور ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله تعالى وبصفاته. فإن من عرف الله تعالى فلا يأمن من مكر الله. وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم. مع أن الله تعالى أعطاهم من المال. وقد حذر الله تعالى مكره فقال تعالى:(فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون(. وقال تعالى:(ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(. وقال تعالى:(فمَهل الكافرين أمهلهم رويداً(. فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة. فصل فى غرور عصاة المؤمنين
وهم من يتكلون على عفو الله ويهملون العمل وأما غرور العصاة بالله من المؤمنين فقولهم: غفور رحيم وإنما يرجى عفوه فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال وذلك من قبل الرجا فإنه مقام محمود في الدنيا. وأن رحمة الله واسعة ونعمته وشاملة وكرمه عميم وأنا موحدون نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان. منشأ ذاك الغرور وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلاح الآباء والأمهات. وذلك نهاية الغرور فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا خائفين. ونظم قياسهم الذى سول لهم الشيطان: من أحب إنساناً أحب أولاده. فإن الله قد أحب أباكم فهو يحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعات فاتكلوا على ذلك واغتروا بالله ولم يعلموا أن نوحا عليه السلام أراد أن يحمل ولده فى السفينة فمنع وأغرقه إليه سبحانه وتعالى بأشد ما أغرق به قوم نوح. وإن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم استأذن فى زيارة قبر أمه، وفى الاستغفار: فأذن له فى الزيارة ولم يؤذن فى الاستغفار لها. ونسوا قوله سبحانه وتعلى:(أَلاَّ تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى(. ومن ظن أنه ينجو بتقوى أصله كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يروى بشراب أبيه. والتقوى فرض عين لا يجزى فيها والد عن ولده(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه(. إلا على سبيل الشفاعة. ونسوا قوله عليه الصلاة والسلام:(الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه وهواها وتمنى على الله الأماني(. وقوله تعالى:(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم(. وقال تعالى:(جزاء بما كانوا يعملون(. وهل يصح الرجا إلا إذا تقدمه عمل وإلا فهو غرور لا محالة. ويقرب منهم غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن لغة حسناتهم ترجح أكثر من كفة السيئات. وهذا غاية الجهل فيرى الواحد يتصرف بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما تناوله من أموال الناس والشبهات أضعافا وهو كمن وضع فى كفة الميزان عشرة دراهم ووضع فى الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن تميل الكفة التى فيها العشرة وذلك غاية الجهل. فصل فى غرور من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها
كالذى يستغفر بلسانه أو يسبح فى الليل والنهار مثلا مائة مرة أو ألف مرة ثم يغتاب المسلمين وتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار ويلتفت إلى ما ورد فى فضل التسبيح. ويغفل عما ورد فى عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين. وذلك محض الغرور فحفظ لسانه عن المعاصى آكد من تسبيحاته. فصل فى بيان المغرورين وأقسام كل صنف الصنف الأول من المغرورين العلماء
والمغرورون منهم فِرق: الفرقة الأولى فرقة منهم لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية تعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصى وإلزامها الطاعات فاغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان. وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله تعالى مثلهم بل يقبل عليهم ويقبل فى الخلق شفاعتهم ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم وهو مغرورون فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان: علم معاملة، وعلم مكاشفة. وعلم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وبصفاته. ولا بد من علم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة وهى العلم بمعرفة الحلال الحرام ومعرفة أخلاق الناس المذمومة والمحمودة. ومثالهم مثال طبيب طب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه ولم يفعل. وهل ينفع الدواء بالوصف!. هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد الحمية. وغفلوا عن قوله سبحانه وتعالى:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسها) ولم يقل من يعلم تزكيتها وأهمل علمها وعلمها الناس. وغفلوا عن قوله صلّى الله عليه وسلّم:(إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه(. وغير ذلك كثير. وهؤلاء المغرورن - نعوذ بالله منهم - وإنما غلب عليهم حب الدنيا وحب الآخرة وحب الراحة. وظنوا أن علمهم ينحيهم فى الآخرة من غير عمل. الفرقة الثانية وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر وتركوا المعاصى الظاهرة وغفلوا عن قلوبهم فلم يمحو منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلا وإرادة الثناء على الأقران والشركاء وطلب الشهرة فى البلاد والعباد وذلك غرور سببه غفلتهم عن قوله عليه الصلاة والسلام:(الرياء الشرك الأصغر(. وقوله:(حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل(. إلى غير ذلك من الأخبار. وغفلوا عن قوله تعالى:(إلا من أتى الله بقلب سليم(. فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم. ومن لا يصفى قلبه لا تصح طاعته. ويكون كمريض ظهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلاء وشرب الدواء. فاشتغل بالطلاء وترك شرب الدواء. فأزال ما بظاهره. ولم يزل ما بباطنه. وأصل ما على ظاهره مما فى باطنه. فلا يزال جربه يزداد أبدا مما فى باطنه. فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة فى القلب يظهر أثرها على الجوارح فلو زال ما فى باطنه استراح الظاهر. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى علموا هذه الأخلاق. وعلموا أنها مذمومة من وجه الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون. وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك. وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم فى العلم. فأما هم فإنهم أعظم عند الله من أن يبتليهم. فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة. وطلبوا العلو والشرف. وغرورهم أنهم ظنوا ذلك ليس تكبرا. وإنما هو عز الدين وإظهار لشرف العلم. ونصرة الدين. وغفلوا عن فرح إبليس به. ونصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لماذا كانت. وبماذا أرغم الكافرين وغفلوا عن تواضع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم حتى عوتب عمر رضى الله عنه فى بذاذته عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم عزنا الله بالإسلام. ولا نطلب العزة فى غيره. ثم هذا المغرور يطلب العز للدين بالثياب الرفيعة. ويزعم أنه يطلب عز الدين وشرفه. ومهما أطلق اللسان فى الحسد فى أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد. ويقول: إنما هو غضب للحق ورد على المبطل فى عدوانه وظلمه. وهذ مغرور. فإنه لو طعن في غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح - وإن أظهر الغضب عند الناس بأنه يحبه. وربما يظهر العلم ويقول: غرضى به أن أفيد الخلق. وهو هراء لأنه لو كان غرضه صلاح الخلق لأحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله أو فوقه. وربما يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثنى عليه. فإذا سئل عن ذلك قال: إنما غرضى أن أنفع المسلمين. وأن أرفع عنهم الضرر. وهو مغرور. ولو كان غرضه ذلك فرح به إذا جرى على يد غيره ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع فى أحد يغضب. وربما أخذ من أموالهم فإن خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت أحدها: أنه مال لا مالك له. والثانى: أنه لمصالح المسلمين. والثالث: أنه إمام. وهل يكون إماما إلا من أعرض عن الدنيا كالأنبياء والصحابة. ومثله: قول عيسى عليه السلام: العالم السوء كصخرة وقعت فى الوادى فلا هى تشرب الماء ولا هى تترك الماء يخلص إلى الزرع. وأصناف غرور أهل العلم كثيرة. وما يفسد هؤلاء أكثر مما يصلحونه. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى حكموا العلم. وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات. واجتنبوا ظاهر المعاصى. وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء. والحسد والكبر والحقد. وطلب العلو. وجاهدوا أنفسكم فى التبرى منها وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية. ولكنهم مغرورون إذ بقى فى زوايا القلب بقايا من خفايا مكايد الشيطان. خبايا خدع النفس ما دق وغمض. فلم يفطنوا لها. وأهملوها. ومثالهم كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه. وفتش عن كل حشيش فقلعه. إلا أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز فلما غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع. وهؤلاء إن غيروا تغيروا. وربما تركوا مخالطة الخلق استكبارا. وربما نظروا إليهم بعين الحقارة. وربما يجتهد بعضهم فى تحسين نظمه لئلا ينظر إليه بعين الركاكة. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى تركوا المهم من العلوم. واقتصروا على علوم الفتاوى فى الحكومات والخصومات. وتفصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش. وخصصوا اسم الفقيه. وسموه: الفقيه وعلم المذهب. وربما ضيعوا مع ذلك علم الأعمال الظاهرة والباطنة ولم يتفقدوا الجوارح. ولم يحرسوا اللسان من الغيبة والبطن عن الحرام. والرجل عن السعى إلى السلاطين. وكذلك سائر الجوارح. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد. وسائر المهلكات. وهؤلاء مغرورون من وجهين: احدهما: من حيث العمل وقد ذكرت وجه علاجه فى الإحياء وأن مثالهم كمثل المريض الذى تعلم الدواء من الحكماء ولم يعلمه أو يعمله وهؤلاء مشرفون على الهلاك حيث أنهم تركوا تزكية أنفسهم وتخليتها. فاشتغلوا بكتاب الحيض والديات والدعاوى والظهار واللعان. وضيعوا أعمارهم فيها. وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم ورجوع أحدهم قاضيا ومفتيا. ويطعن كل واحد فى صاحبه. وإذا اجتمعوا زال الطعن. والثانى: من حيث العلم وذلك لظنهم أنه لا علم إلا بذلك وأنه المنجى الموصل. وإنما المنجى الموصل حب الله. ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته. بمن تتحقق معرفة الله ومعرفته ثلاث: معرفة الذات ومعرفة الصفات. ومعرفة الأفعال. ومثال هؤلاء مثال من اقتصر على بيع الزاد فى طريق الحاج. ولم يعلم أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى ومعرفة صفاته المخوفة. والزاجرة ليستشعر القلب الخوف. ويلازم التقوى كما قال تعالى:(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين(. ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولا يهمه إلا العلم بطريق المجادلة والإلزام. وإقحام الخصم ودفع الحق لأجل المباهاة. وهو طول الليل والنهار فى التفتيش فى مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران. وهؤلاء لم يقصدوا العلم. وإنما قصروا مباهاة الأقران ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيرا لهم من علم لا ينفع إلا فى الدنيا. ونفعه فى الدنيا التكبر. وذلك ينقلب فى الآخرة نارا تلظى. وأما أدلة المذاهب فيشتمل عليها كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أقبح غرور هؤلاء. الفرقة السادسة وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم. واستكثروا من علم المقولات المختلفة. واشتغلوا بتعلم الطريق فى مناظرة أولئك وإفحامهم. ولكنهم على فرقتين: إحداهما: ضالة مضلة والأخرى محقة. أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها عن ضلالتها وظنها بنفسها النجاة. وهو فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا. وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا شروط الأدلة ومناهجها. فرأوا الشبه دليلاً. والدليل شبهة. وأما غرور المحقة فمن حيث أنهم ظنوا بالجدال أنه أهم الأمور وأفضل القربات فى دين الله تعالى. وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يتفحص ويبحث. وإن من صدق الله تعالى من غير بحث وتحرير دليل فليس ذلك بمؤمن وليس بكامل ولا بمقرب عند الله ولم يلتفتوا إلى القرن الأول. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد لهم بأنهم خير الخلق ولم يطلب منهم الدليل وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. أنه قال:(ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه. إلا أوتوا الجدل(. الفرقة السابعة اشتغلوا بالوعظ. وأعلاهم نية من يتكلم فى أخلاق النفس وصفات القلب. من الخوف والرجاء، والصبر والشكر والتوكل، والزهد واليقين والإخلاص والصدق وهم مغرورون لأنهم يظنون بأنفسهم إذا تكلموا بهذه الصفات. ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بها. وهم منفكون عنها إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين. وغرورهم أساس الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب. ويظنون أنهم ما تبحروا فى علم المحبة إلا وهم من الناجين عند الله تعالى وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلودهم من العمل وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم لأنهم يظنون أنهم يحببون فى الله ورسوله. وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون ولا وقفوا على خطايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون. وكذلك جميع الصفات. وهم أحب فى الدنيا من كل أحد. ويظهرون الزهد فى الدنيا لشدة حرصهم على الدنيا. وقوة رغبتهم فيها. ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين. ويظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون ويخوفون بالله وهم منه آمنون ويذكرون بالله وهم له ناسون. ويقربون إلى الله تعالى وهم منه متباعدون. ويذمون الصفات المذمومة وهم بها متصفون ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا. لو منعوا عن مجالسهم التى يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الأرض بما رحبت ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق. ولو ظهر من أقرانه أحدهم ممن أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا. ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله تعالى إليه فهؤلاء أعظم الناس غرورا وأبعدهم عن التنبيه والرجوع إلى السداد. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهج الواجب فى الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله تبارك وتعالى. فاشتغلوا بالطامات. والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للإغراب. وطائفة اشتغلوا بطيارات النكت ونسجيع الألفاظ وتلفيقها. وأكثر همهم فى الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق. وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض فاسدة. وهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا. فإن الأولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم. وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن السبيل. ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصى. ورغبة فى الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيل والمراكب ويقنطهم من رحمة الله تعالى. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى منهم فتنوا بكلام الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا فيعيدونها على نحو ما يحفظونه من كلام حفظوه من غير إحاطة بمعانيها. فيعظهم بفعل ذلك على المنابر. وبعضهم فى المحاريب. وبعضهم فى الأسواق مع الجلساء. ويظن أنه ناج عند الله. وأنه مغفور له الفرقة العاشرة وفرقة أخرى شغلوا أوقاتهم فى علم الحديث. أعنى سماعه. وجمع الروايات الكثيرة منه. وطلب الأسانيد الغريبة العالية. فهمة أحدهم أن يدور فى البلاد. ويروى عن الشيوخ ليقول: أنا أروى عن فلان. ورأيت فلانا. ولقيت فلانا. ومعى من الأسانيد مع ما ليس مع غيرى. وغرورهم من وجوه: منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم السنة وتدبر معانيها. وإنما قاصرون على النقل. ويظنون أن ذلك يكفيهم. وهيهات. بل المقصود من الحديث فهم وتدبر معانيه. فالأول فى الحديث السماع. ثم التفهم ثم الحفظ. ثم العمل. ثم النشر. وهؤلاء اقتصروا على السماع لا عمل. ثم لم يحكموه. وإن كان لا فائدة فى الاقتصار عليه والحديث فى هذا الزمان يقرئونه الصبيان وهم غرة غافلون. والشيخ الذى يقرأ عليه ربما كان غافلا بحيث لو صحف وغير الحديث لا يعلم. وربما ينام ويروى عنه الحديث وهو لا يعلم. وكل ذلك غرور. وإنما الأصل فى استماع الحديث أن يسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو من الصحابة. أو من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين. ويصير سماعه من الصحابة كسماعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو يصغى ويحفظ. ويرويه كما حفظه حتى لا يشك فى حرف واحد منه. وإن شك فيه لم يجز له أن يرويه. وحفظ الحديث يكون بطريقتين: إحداهما: بالقلب مع الاستدامة بالتكرار والذكر. والثانية: يكتب كما يسمع. ويصحح المكتوب. ويحفظ كيلا تصل إليه يد من يغيره. ويكون حفظه الكتاب أن يكون فى خزانته محروسا حتى لا تمتد عليه يد غيره أصلا. ولا يجوز أن يكتب سماع الصبى والغافل والنائم ولو جاز ذلك أن يكتب سماع الصبى فى المهد. وللسماع شروط كثيرة. والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته. وله مفهومات كثيرة. كما للقرآن. وروى عن بعض المشايخ أنه حضر فى مجلس السماع وكان أول حديث سمعه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه(. فقام وقال: يكفينى هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره. وهكذا يكون سماع الأكياس. وهو أبو السعيد بن أبى الخير المنهى حضر فى مجلس ابن أحمد السرخسى. وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو والشعر واللغة وغيرها. واغتروا به وزعموا أنه غفر لهم. وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين والسنة بعلم اللغة والنحو. فأفنوا أعمارهم فى دقائق النحو واللغة. وذلك غرور. فلو عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة الترك. والمضيع عمره فى لغة العرب كالمضيع عمره فى لغة الترك والهند. وإنما فارقهم لورود الشرع فيكفى فى اللغة علم الغريبين فى الأحاديث والكتاب. ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب. وأما التعمق إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه. وصاحبه مغرور. الصنف الثانى من المغرورين أرباب العبادات والأعمال والمغرورون فرق كثيرة.
فمنهم من غروره فى الجهاد ومنهم من غروره فى الزهد. الفرقة الأولى فمنهم فرقة أهملوا الفرائض. واشتغلوا بالنوافل. وربما تعمقوا حتى خرجوا إلى السرف والعدوان كالذى تغلب عليه الوسوسة فى الوضوء فيبالغ فيه. ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته فى فتوى الشرع. ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة من النجاسة. وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض. ولو انقلب بهذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أولى وتشبه بسيرة الصحابة رضى الله عنهم. إذ توضأ عمر رضى الله عنه بماء فى جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة. وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال وخوفا من الوقوع فى الحرام. الفرقة الثانية وفرقة أخرى غلب عليهم الوسوسة فى نية الصلاة فلا يدعه الشيطان يعتقد نية صحيحة. بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة. وتخرج الصلاة عن الوقت. وإن تم تكبيرة الاحرام فيكون فى قلبه تردد. فى صحة نيته. وقد يتوسوس فى التكبيرة فيكون قد تغير صفة التكبير لشدة الاحتياط. ويفوته سماع الفاتحة. ويفعلون ذلك فى أول الصلاة. ثم يفعلون فى جميع الصلاة. ولا يهزون قلوبهم ويغترون بذلك. ولم يعلموا أن حضور القلب فى الصلاة هو الواجب. وإنما غرهم إبليس وزين لهم. وقال لهم: هذا الاحتياط تتميزون به عن العوام وأنتم على خير عند ربكم. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة فى إخراج حروف الفاتحة. وسائر الأذكار من مخارجها. فلا تزال تحتاط فى التشديدات. والفرق بين الضاد والظاء. لا يهمه غير ذلك ولا يتفكر فى أسرار الفاتحة ولا فى معانيها. ولم يعلم أنه لم يكلف الخلق فى تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا ما جرت به عادتهم فى الكلام. وهذا غرور عظيم. ومثالهم مثال من حمل رسالة إلى مجلس السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها. فأخذ يؤدى الرسالة ويتأنق فى مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو مع ذلك غافل عن مقصود الرسالة. ومراعاة حرمة المجلس. وبهذا يرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن. فيهدرونه هدرا. وربما يختمونه فى اليوم والليلة ختما. وألسنتهم تجرى به. وقلوبهم تتردى فى أودية الأماني والتفكر فى الدنيا. ولا يتفكر فى معانى القرآن. لينزجر بزواجره. ويتعظ بمواعظه. ويقف عند أوامره ونواهيه. ويعتبر بمواضع الاعتبار منه. ويتلذذ به من حيث المعنى لا من حيث النظم. ومن قرأ كتاب الله تعالى فى اليوم والليلة مائة مرة. ثم ترك أوامره ونواهيه فهو مستحق العقوبة. وربما قد يكون له صوت لين فهو يقرأ ويتلذذ به. ويغتر باستلذاذه. ويظن أن ذلك مناجاة الله سبحانه تعالى. وسماع كلامه. وهيهات ما أبعده. إذا لذاته فى صوته. ولو أدرك لذة كلام الله تعالى ما نظر إلى صوته وطيبه. ولا تعلق خاطره به. ولذة كلام الله إنما هى من حيث المعنى. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى اغتروا بالصوم. وربما صاموا الدهر. وصاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم من الغيبة. ولا خواطرهم من الربا. ولا بطونهم من الحرام عند الافطار ولا من الهذيان من أنواع الفضول. وذلك غرور عظيم. وهؤلاء تركوا الواجب. وأبقوا المندوب. فظنوا أنهم يسلمون. وهيهات. إنما يسلم من أتى الله بقلب سليم. الفرقة السادسة وفرقة أخرى أخذت فى طريق الخشية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ينكر على الناس. ويأمرهم بالخير وينسى نفسه!. وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة. وإذا باشر منكرا أنكر عليه. وغضب وقال: أنا المحتسب. فكيف تنكر علىَّ. وقد تجمع الناس فى مجلسه أو مسجده. ومن تأخر عنه أغلظ عليه القول. وإنما غرضه الرياء والسمعة وحب الرئاسة. وعلامة أنه لو قام بالمسجد غيره تجرأ عليه. بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله تعالى ولو جاء غيره وأذن فى وقت غيبته قامت عليه القيامة. وقال: لم أخذ حقى!. وزوحمت!. ومنهم من يتقيد أمام مسجد ويظن أنه على خير. وإنما غرضه أن يقال: إنه إمام المسجد. الفرقة السابعة وفرقة أخرى جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهما. ولم يراقبوا قلوبهم. ولم يطهروا ظواهرهم وبواطنهم. وربما كانت قلوبهم متعلقة ببلادهم. وتراهم يتحدثون بذلك. ويقولون: جاورنا بمكة كذا كذا سنة. وهم مغرورون لأن الأقوم لهم أن يكونوا ببلدة وقلوبهم متعلقة بمكة. وإن جاور أحدهم يجب عليه أن يحفظ حق الجوار. فإن جاور بمكة حفظ حق الله تعالى. وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبى صلّى الله عليه وسلم. ومن يقدر على ذلك. وهؤلاء مغرورون بالظواهر. وظنوا أن الحيطان تنجيهم. وهيهات. وربما لا تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير. وما أصعب المجاورة فى حق الخلق. فكيف بمجاورة الخالق!. وما أحسن مجاورته بحفظ جوارحه وقلبه. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى زهدت فى المال وقنعت من الطعام واللباس بالدون. ومن السكن بالمساجد. وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد. وهم مع ذلك راغبون فى الرياسة والجاه. والزهادة إنما تحصل بأحد أشياء: إما بالتعلم أو بالوعظ. أو بمجرد الزهد. فلقد تركوا أهون الأمرين. وباءوا بأعظم المهلكات. فإن الجاه أعظم من المال. ولو أخذ المال وترك الجاه. كان إلى السلامة أقرب. وهؤلاء مغرورون بظنهم أنهم من الزهاد فى الدنيا. ولم يفهموا كيف مكر بهم. وربما تقدم الأغنياء على الفقراء. ومنهم من يعجب بعلمه. ومنهم من يؤثر الخلوة وهو عن شروطها خال. ومنهم من يعطى المال فلا يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده. وهو راغب فى الدنيا. خائف من ذم الناس. ومنهم من شدد على نفسه فى أعمال الجوامع. حتى يصلى فى اليوم مثلا ألف ركعة ويختم القرآن وهو فى جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات. وربما يظن أن العبادة الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات. وهيهات ذرة من ذى تقوى. وخلق واحد من خلق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح. ثم قد يغتر بقول من يقول له: إنك من أوتاد الأرض. وأولياء الله وأحبائه فيفرح لذلك. ويطهر له تزكية نفسه. ولو شوتم يوما واحدا ثلاث مرات أو مرتين لكفر وجاهد من فعل ذلك به. وربما قال لمن سبه: لا يغفر الله لك أبدا. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض. فتارة يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل. وأمثال هذه النوافل فلا يجد لصلاة الفريضة لذة ولا خير من الله تعالى لشدة حرصه على المبادرة فى أول الوقت. وينسى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ما تقرب المتقربون بأفضل ما افترضه الله عليهم(. وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الغرور. بل قد يتعين على الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت. أو نفلان أحدهما يضيق وقته والآخر متسع وقته. فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. فإن المعصية ظاهرة. وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض. كتقديم الفرائض كلها على النوافل. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التى لا قائم بها على ما قدم بها غيره. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه. وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد. وتقديم الدين على القروض غيره وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك ويرتبه. ولكن الغرور فى الترتيب دقيق خفى لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون فى العلم رضى الله عنهم وغفر لهم. الصنف الثالث من المغرورين
أرباب الأموال وفرقهم الفرقة الأولى فرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والصهاريج للماء. وما يظهر للناس. ويكتبون أسماءهم بالآجر عليه. ليتخلده ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم. وهم يظنون أنهم استحقوا المغفرة بذلك. وقد اغتروا فيه من وجهين. أحدهما: أنهم قد اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشا والجهات المحظورة. وهم قد تعرضوا لسخط الله فى كسبها. فإذن قد عصوا الله فى كسبها. فالواجب عليهم فى التوبة ردها إلى ملاكها إن كانوا أحياء أو إلى ورثتهم. فإن لم يبق منهم أحد وانقرضوا فالواجب صرفها فى أهم المصالح. وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين. وأى فائدة فى بنيان يستغنى عنه ويتركه ويموت. وإنما غلب على هؤلاء الرياء والشهرة ولذة الذكر. والوجه الثانى: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير فى الانفاق. وعلو الأبنية. ولو كلف أحد منهم أن ينفق دينارا على مسكين لم تسمح نفسه بذلك. لأن حب المدح مستكن الفرقة الثانية وفرقة أخرى ربما اكتسبوا الحلال. واجتنبوا الحرام وأنفقوه على المساجد وهى أيضا مغرورة من وجهين: أحدهما: الرياء وطلب السمعة والثناء. فإنه ربما يكون فى جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم. فإن المساجد كثيرة والغرض منها الجامع وحده فيجزئ عن غيره. وليس الغرض بناء المسجد فى كل سكة وفى كل درب والمساكين والفقراء محتاجون. وإنما خف عليهم دفع المال فى بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس. ولما يسمع من الثناء عليه من الخلق فيظن أنه يعمل لله وهو يعمل لغير الله. والله أعلم بذلك. وإنما نيته عليه غضب. وإنما قال: قصدت أنه لله تعالى. والثانى: أنه يصرف ذلك فى زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهى عنها. الشاغلة قلوب المصلين لأنهم ينظرون إليها وتشغلهم عن الخشوع فى الصلاة. وعن حضور القلب. وهو المقصود. وكلما طرأ على المصلين فى صلاتهم وفى غير صلاتهم فهو فى رقبة البانى للمسجد. إذ لا قال الحسن رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يبنى مسجده بالمدينة أتاه جبريل فقال له: (ابنه سبعة أذرع طولاً فى السماء لا تزخرفه ولا تنقشه(. وغرور هؤلاء أنهم رأوا المنكر معروفا فاتكلوا عليه. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى ينفقون الأموال فى الصدقات على الفقراء والمساكين. ويطلبون بها المحافل الجامعة. ومن الفقراء من عادته الشكر. والإفشاء للمعروف. ويكرهون التصدق فى السر. ويرون إخفاء الصدقة للفقير لما يأخذه منهم خيانة عليهم. وكفرانا. وربما تركوا جيرانهم جائعين. ولذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما:(فى آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهوى لهم السفر ويبسط لهم فى الرزق ويرجعون مجرمين مسلوبين يهوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال وجاره مأسور إلى جنبه فلا يواسيه ولا يتفقده(. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى من أرباب الأموال. يحفظون الأموال. ويمسكونها بحكم البخل ويشتغلون بالعبادات الدينية التى لا يحتاجون فيها إلى نفقة. كصيام النهار. وقيام الليل. وختم القرآن. وهؤلاء مغرورن. لأن البخل المهلك قد استولى على باطنهم. فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال. فاشتغلوا بطلب فضائل وهم مشتغلون عنها. ومثالهم مثال من دخلت فى ثوبه حية. وقد أشرف على الهلاك. وهم مشغول عنها بطلب السكنجبين ليسكن به الصفراء. ومن لدغته الحية كيف يحتاج إلى ذلك!. ولذلك قيل لبشر الحافى: إن فلانا كثير الصوم والصلاة. فقال: المسكين ترك حاله. ودخل فى حال غيره. وإنما حال هذا إطعام الطعام للجائع. والإنفاق على المساكين. فهو أفضل له من تجويع نفسه. ومن صلاته. مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى غلب عليهم البخل. فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط. ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الردئ الذى يرغبون عن. ويطلبون من الفقراء من يخدمهم. ويتردد فى حاجاتهم. أو من يحتاج إليه فى المستقبل للاستئجار لهم فى الخدمة. ومن لهم فيه غرض. ويسلمونها إلى شخص بعينه واحد من الكبار. ممن يستظهر بخشيته. لينال بذلك عنده منزلة. فيقوم بحاجته. وكل ذلك مفسد للنية ومحبط للعمل وصاحبه مغرور يظن أنه مطيع لله تعالى وهو فاجر إذا يطلب بعبادة الله تعالى عوضا من غيره. فهذا وغيره وأمثاله مغرورون بالأموال. الفرقة السادسة وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب والأموال والفقراء. اغتروا بحضور مجالس الذكر. واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم. فاتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل. ودون الاتعاظ أجرا. وهم مغرورن لأن فضل مجالس الذكر لكونها رغبة فى الخير. وإذا لم تهج الرغبة فلا خير فيها. والرغبة محمودة. لأنها تبعث على العمل. وإن لم تبعث على العمل فلا خير فيها. وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ. وإنما يداخله رقه كرقة النساء فيبكى!. وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزال يصفر بين يديه ويقول: يا سلام سلم!. ونعوذ بالله!. والحمد لله. وحسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!. ويظن أنه قد أتى بالخير كله. وهو مغرور. ومثاله مثال المريض. الذى يحضر إلى مجالس الأطباء. ويسمع ما يصفونه من الأدوية ولا يعقلها. ولا يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك. والجائع الذى يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة. فكل وعظ لا يغير منك صفة تغير بدونها أفعالك. حتى تقبل على الله وتعرض عن الدنيا. وتقبل إقبالاً قويا. وإن لم تفعل فذلك الوعظ زيادة حجة عليك. فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا. الصنف الرابع من المغرورين المتصوفة
وما أغلب الغرور على هؤلاء المغرورين!! الفرقة الأولى منهم متصوفة أهل هذا الزمان إلا من عصمه الله. اغتروا بالزى والمنطق والهيبة. فشابهوا الصادقين من الصوفية فى زيهم وهيئتهم وألفاظهم وآدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم. وأموالهم الظاهرة فى السماع. والرقص. والطهارة. والصلاة. والجلوس على السجادة مع إطراق الرأس. وإدخاله فى الجيب كالمتفكر وفى أنفاس الصعداء. وفى خفض الصوت فى الحديث. وفى الصياح. إلى غير ذلك. فلما تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك ينجيهم. ولم يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة. والرياضة والمراقبة للقلب فى تطهير الباطن والظاهر من الآثار الخفية والجلية. وكل ذلك من منازل الصوفية. ثم إنهم يتكالبون على الحرام والشبهات. وأموال السلاطين. ويتنافسون فى الرغيف. والفلس والحبة. ويتحاسدون على النقير والقطمير. ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه فى شئ من غرضه. وهؤلاء مغرورن. ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال والمقاتلين ثبتت أسماؤهم فى الديوان فتزيت بزيهم. ووصلت إلى الملك. فعرضت على ميزان العرض. فوجدت عجوز سوء. فقيل لها: أما تستحين فى استهتارك بالملك! اطرحوها حول الفيل. فطرحوها حول الفيل فركضها حتى ماتت الفرقة الثانية وفرقة أخرى ازدادت على هؤلاء فى الغرور. إذا صعب عليها الاقتداء فى بذاذة الثياب. والرضا بالدون فى المطعم والمنكح والمسكن. وأرادت أن تتظاهر بالتصوف. ولم تجد بدا من التزيى بزيهم. فتركت الخز والإبريسم. وطلبت المرقعات النفسية. والفوط الرقيقة. والسجادة المصبوغة. وقيمتها أكثر من قيمة الخز والإبريسم. ولا يجتنبون معصية ظاهرة. فكيف باطنه. وإنما غرضهم رغد العيش. وأكل أموال السلاطين. وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير. وضرر هؤلاء أشد من ضرر اللصوص. لأن هؤلاء يسرقون القلوب بالزى. ويقتدى بهم الغير. فيكون بسبب هلاكهم. وإن اطلع على فضائحهم ربما ظن أهل التصوف كذلك. فيصرح بذم الصوفية على الإطلاق. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى ادعت علم المكاشفة. ومشاهدة الحق. ومجاوزة المقامات. والوصول والملازمة فى عين الشهود. والوصول إلى القرب. ولا يعرف ذلك. ولا وصل إليه باللفظ والإثم. ويلفق من الألفاظ الطامة كلمات. فهو يردها. ويعلن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين. وهو ينظر إلى الفقراء والمقرئين. والمفسرين والمحدثين. وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلا عن العوام. حتى أن الفلاح ليترك فلاحته. والحايك حياكته. ويلازمهم أياما معدودة. ويتلقف تلك الكلمات الزائفة. فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحى. ويخبر عن أسرار الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء. فيقول فى العباد: أجراء متعبدون. ويقول فى العلماء: إنهم بالحديث محجوبون. ويدعى لنفسه أنه الواصل إلى الحق. وأنه من المقربين. وهو عند الله من الفجار المنافقين. وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين. لم يحكم قط علماً. ولا يهذب خلقاً. ولا يراقب قلباً سوى اتباع الهوى. وتلفيق الهذيانات. ولو اشتغلوا بما ينفعهم كان أحسن لهم. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى جاورت هؤلاء فأحسنت الأعمال. وطلبت الحلال. واشتغلت بتفقد القلب. وصار أحدهم يدعى المقامات من الزهد. والتوكل. والرضا. والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. فمنهم من يدعى الوجد وحب الله تعالى. ويزعم أنه واله بالله تعالى. ولعله قد يتخيل بالله تعالى خيالات فاسدة هى بدعة وكفر. فيدعى حب الله تعالى وقيل معرفته. وذلك لا يتصور قط. ثم إنه لا يخلو من مفارقة ما يكره الله تعالى. وإيثار هوى نفسه على أمر الله تعالى. وعن ترك الأمور حياء من الخلق. ولو خلا ما تركها حياء من الله تعالى. وليس يدرى أن كل ذلك يناقض الحب. وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادى من غير زاد ليصحح التوكل. وليس يدرى أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحافة رضى الله عنهم أجمعين. وقد كانوا أعرف بالتوكل منه. وما فهموا من التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد. بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله تعالى على لا الزاد. وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واتقى به. وما مقام من المقامات المنجية إلا وفيها غرور. وقد اعتبرها قوم. وقد ذكرنا مداخل الآفات فيها ربع المنجيات فى الإحياء. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى ضيقت على أنفسها أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص. وأهملت تفقد القلب والجوارح فى غير هذه الخصلة الواحدة. ومنهم من أهمل الحلال فى مطعمه وملبسه ومكسبه فيتعمق فى ذلك. ولم يدر المسكين أن الله تعالى لم يرض من العباد إلا بالكمال فى الطاعات فمن اتبع البعض وأهل البعض فهو مغرور. الفرقة السادسة وفرقة أخرى ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة. وقصدوا الخدمة للصوفية. فجمعوا قوما وتكلفوا خدمتهم. واتخذوا ذلك شبكة لحطام الدنيا. وجمعا للمال. وإنما غرضهم التكثير والتكبير. وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية. ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات لينفقوا عليهم. ليكثر أتباعهم. وينشر بالخدمة اسمهم. وبعضهم يأخذ من أموال السلطان وينفق عليهم. وبعضهم يأخذها لينفق فى طريق الحج على الصوفية. ويزعم أن غرضهم البر والإنفاق. وباعث جميعهم الرياء والسمعة. وذلك بإهمالهم لجميع أوامر الله تعالى ظاهرا. ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه. ومثال ذلك: كالذى ينفق ماله فى طريق الحاج. وكمن يعمر مسجد الله تعالى ويطينه بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة. الفرقة السابعة وفرقة أخرى اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق. وتطهير النفس من عيوبها. وصاروا يتعمقون فيها. فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خداعها علما وحرفة لهم. فهم فى جميع الأحوال يشتغلون بالفحص عن عيوب النفس. واستنباط دقيق الكلام فى آفاتها. فيقولون: هذا فى النفس عيب. والغفلة فى كونه عيبا عيب. ويشتغلون فيها بكلمات متلبسة. وضيعوا فى ذلك أوقاتهم. وكأنهم وقفوا مع أنفسهم. ولم يشتغلوا بخالقهم. فمثالهم مثال من اشتغل بأوقات الحج وعوائقه. ولم يسلك طريق الحج. وذلك لم يغنه عن الحج. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى جاوزت هذه المرتبة. وابتدأوا سلوك الطريق. وانفتحت لهم أبواب المعرفة. فكلما شموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها. وفرحوا بها. وأعجبهم غراسها. فتعلقت قلوبهم بالالتفات إليها. والتفكر فيها. وفى كيفية انفتاح بابها عليهم. واشتدادها على غيرهم. وكل ذلك غرور. لأن عجائب طريق الله تعالى ليس لها نهاية. فمن وقف مع كل أعجوبة. وتقيد بها قصرت خطاه. وحرم الوصول إلى المقصد. ومثاله مثال من قدم على ملك. فرأى باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار. ولم يكن قد رآها قبل ذلك. ولا رأى مثلها. فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذى يمكنه اللقاء بالملك فانصرف خائبا. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى جاوزت هؤلاء. ولم تلتفت إلى ما يفيض عليهم من الأنوار فى الطريق. ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة. ولم يلتفتوا إليها. ولا عرجوا عليها. جادين فى السير. فلما قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلوا. فوقفوا. ولم يتعدوا ذلك. وغلطوا. فإن لله سبعين حجابا من نور وظلمة. ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب إلا ويظن أنه قد وصل. وإليه الإشارة بقوله تعالى إخبار عن إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام إذ قال:(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) الآية. وما أكثر الحجب فى هذا المقام. فأول حجاب بين العبد وربه نفسه. فإنه أمر ربانى عظيم. وهو نور من أنوار الله تعالى. أعنى سر القلب الذى سيجلى حقيقة الحق كما هو حتى أنه يسمع جملة العالم كله. ويحيط به صور الورى. فعند ذلك سيشرق نوره إشراقا عظيما. إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه. وهو فى أول الأمر محجوب بمشكاة هى الساترة له. فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله تعالى عليه. ربما التفت صاحب القلب إلى القلب. فرأى من جماله الفائق ما يدهشه. فربما صرح وقال: أنا الحق. فإن لم يتضح ما وراء ذلك. ووقف عنك هلك. وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح عليه الصلاة والسلام. لما رأوا من إشراق نور الله تعالى عليه. فغلطوا. كمن رأى كوكبا فى مرآة. أو فى ماء. فيظن أن الكواكب المرآة. فيمد يده ليأخذه. فهو مغرور. هل هناك أنواع أخرى فى طريق السلوك وأنواع الغرور فى طريق السلوك إلى الله. لا تستقصى إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية. وذلك لا رخصة فى ذكره. وقد يجوز إظهاره حتى لا يقع المغرور فيها. وبالله التوفيق. وهو حسبى ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. تم ذلك بحمد الله وعونه على يد كاتبه لنفسه ولمن شاء الله من بعده راجى عفو ربه القريب المجيب الفقير عثمان ابن العلامة الشيخ سلمان الشافعى السويفى غفر الله ولوالديه وللمسلمين. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه.
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم العامل حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى رحم الله وعفا عنه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقة سيدنا محمد وآله وصحبه هذا كتاب الكشف والتبيين فى غرور الخلق أجمعين. اعلم أن الخلق قسمان: حيوان وغير حيوان. والحيوان قسمان: مكلف ومهمل. فالمكلف من خاطبه الله بالعبادة وأمره بها. ووعده الثواب عليها ونهاه عن المعاصى وحذره العقوبة. ثم المكلف قسمان: مؤمن وكافر. والمؤمن قسمان طائع وعاص. وكل من الطائعين والعاصين ينقسم قسمين: عالم وجاهل. ثم رأيت الغرور لازما لجميع المؤمنين المكلفين والكافرين. إلا من عصمه الله رب العالمين. وأنا بحمد الله أكشف عن غرورهم وأبين الحجة فيه. وأوضحه غاية الإيضاح. وأبينه غاية البيان بأوجز ما تكون العبارة. وأبدع ما يكون من الإشارة. والمغرورون من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف:
صنف من العلماء, وصنف من العباد، وصنف من أرباب الأموال، وصنف من المتصوفة. غرور الكافر
فأول ما نبدأ به غرور الكافر وهو قسمان: منهم من غرته الحياة الدنيا. ومنهم من غره بالله الغرور. أما الذين غرتهم الحياة الدنيا وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة. ولذات الدنيا يقين. ولذات الآخرة شك!!. ولا يترك اليقين بالشك. وهذا قياس فاسد. وهو قياس إبليس لعنه الله تعالى فى قوله: أنا خير منه. فظن أن الخيرية فى النسب. وعلاج هذا الغرور شيئان إما بتصديق وهو الإيمان. وإما ببرهان. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله )وما عند الله خير وأبقى( )وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(. وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به. وأما البرهان: وهو أن يعرف وجه فساد قياسه. أن قوله: الدنيا نقد والآخرة نسيئة مقدمة صحيحة وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس. وليس الأمر كذلك. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار. والمقصود فهو خير. وإن كان أقل منها. فالنسيئة خير منه. ومعلوم أن الآخرة أبدية. والدنيا غير أبدية. وأما قوله: ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فهو أيضا باطل. بل ذلك يقين عند المؤمنين. وليقينه مدر كان: أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء. والمدرك الثاني: الوحى للأنبياء والإلهام للأولياء. ولا تظن أن معرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمور الآخرة. ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليه السلام. فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة. والنبي صلّى الله عليه وسلّم حاشاه الله من ذلك. بل انكشفت له الأشياء. وشاهدها بنور البصيرة. كما شاهدت أنت المحسوسات بالعين الظاهرة. فصل فيمن يشاركون الكفار غرورهم من المؤمنين بربهم والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أمر الله تعالى وهى الأعمال الصالحة.
وتدنسوا بالشهوات. وهم مشاركون الكفار فى هذا الغرور. فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميعا غرور: فأما غرور الكافرين بالله تعالى فمثاله: قول بعضهم فى أنفسهم بألسنتهم: إنه إن كان الله معيدنا فنحن أحق بها من غيرنا كما أخبر الله تعالى عنهم فى صورة الكهف حين قال: (ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً) ما سبب هذا الغرور وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه الله تعالى. وذلك انهم ينظرون مرة إلى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا. فيقيسون عليها نعم الآخرة ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم (ويقولون فى أنفسهم لو لا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء. فيزدرونهم ويقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا(. ويقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه(. وترتيب القياس الذى نظم فى قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعم الدنيا. وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن وليس كذلك. بل يكون محسناً ولا يكون محباً. بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على الاستدراج. وذلك محض الغرور بالله عز وجل. ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله تعالى يحمى عبده من الدنيا كما يحمى أحدكم مريضه عن الطعام والشراب وهو يحبه(. ولذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا. وقالوا: مرحبا بشعار الصالحين فقد قال الله تعالى: (فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه(. وقال تعالى: (أيحسبون أَنَّمَا نُمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون). الآية. وقال تعالى:(سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين(. وقال تعالى:(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(. فمن آمن بالله تعالى يأمن من هذا الغرور. ومم ينشأ هذا الغرور ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله تعالى وبصفاته. فإن من عرف الله تعالى فلا يأمن من مكر الله. وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم. مع أن الله تعالى أعطاهم من المال. وقد حذر الله تعالى مكره فقال تعالى:(فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون(. وقال تعالى:(ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(. وقال تعالى:(فمَهل الكافرين أمهلهم رويداً(. فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة. فصل فى غرور عصاة المؤمنين
وهم من يتكلون على عفو الله ويهملون العمل وأما غرور العصاة بالله من المؤمنين فقولهم: غفور رحيم وإنما يرجى عفوه فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال وذلك من قبل الرجا فإنه مقام محمود في الدنيا. وأن رحمة الله واسعة ونعمته وشاملة وكرمه عميم وأنا موحدون نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان. منشأ ذاك الغرور وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلاح الآباء والأمهات. وذلك نهاية الغرور فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا خائفين. ونظم قياسهم الذى سول لهم الشيطان: من أحب إنساناً أحب أولاده. فإن الله قد أحب أباكم فهو يحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعات فاتكلوا على ذلك واغتروا بالله ولم يعلموا أن نوحا عليه السلام أراد أن يحمل ولده فى السفينة فمنع وأغرقه إليه سبحانه وتعالى بأشد ما أغرق به قوم نوح. وإن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم استأذن فى زيارة قبر أمه، وفى الاستغفار: فأذن له فى الزيارة ولم يؤذن فى الاستغفار لها. ونسوا قوله سبحانه وتعلى:(أَلاَّ تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى(. ومن ظن أنه ينجو بتقوى أصله كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يروى بشراب أبيه. والتقوى فرض عين لا يجزى فيها والد عن ولده(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه(. إلا على سبيل الشفاعة. ونسوا قوله عليه الصلاة والسلام:(الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه وهواها وتمنى على الله الأماني(. وقوله تعالى:(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم(. وقال تعالى:(جزاء بما كانوا يعملون(. وهل يصح الرجا إلا إذا تقدمه عمل وإلا فهو غرور لا محالة. ويقرب منهم غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن لغة حسناتهم ترجح أكثر من كفة السيئات. وهذا غاية الجهل فيرى الواحد يتصرف بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما تناوله من أموال الناس والشبهات أضعافا وهو كمن وضع فى كفة الميزان عشرة دراهم ووضع فى الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن تميل الكفة التى فيها العشرة وذلك غاية الجهل. فصل فى غرور من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها
كالذى يستغفر بلسانه أو يسبح فى الليل والنهار مثلا مائة مرة أو ألف مرة ثم يغتاب المسلمين وتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار ويلتفت إلى ما ورد فى فضل التسبيح. ويغفل عما ورد فى عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين. وذلك محض الغرور فحفظ لسانه عن المعاصى آكد من تسبيحاته. فصل فى بيان المغرورين وأقسام كل صنف الصنف الأول من المغرورين العلماء
والمغرورون منهم فِرق: الفرقة الأولى فرقة منهم لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية تعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصى وإلزامها الطاعات فاغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان. وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله تعالى مثلهم بل يقبل عليهم ويقبل فى الخلق شفاعتهم ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم وهو مغرورون فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان: علم معاملة، وعلم مكاشفة. وعلم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وبصفاته. ولا بد من علم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة وهى العلم بمعرفة الحلال الحرام ومعرفة أخلاق الناس المذمومة والمحمودة. ومثالهم مثال طبيب طب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه ولم يفعل. وهل ينفع الدواء بالوصف!. هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد الحمية. وغفلوا عن قوله سبحانه وتعالى:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسها) ولم يقل من يعلم تزكيتها وأهمل علمها وعلمها الناس. وغفلوا عن قوله صلّى الله عليه وسلّم:(إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه(. وغير ذلك كثير. وهؤلاء المغرورن - نعوذ بالله منهم - وإنما غلب عليهم حب الدنيا وحب الآخرة وحب الراحة. وظنوا أن علمهم ينحيهم فى الآخرة من غير عمل. الفرقة الثانية وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر وتركوا المعاصى الظاهرة وغفلوا عن قلوبهم فلم يمحو منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلا وإرادة الثناء على الأقران والشركاء وطلب الشهرة فى البلاد والعباد وذلك غرور سببه غفلتهم عن قوله عليه الصلاة والسلام:(الرياء الشرك الأصغر(. وقوله:(حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل(. إلى غير ذلك من الأخبار. وغفلوا عن قوله تعالى:(إلا من أتى الله بقلب سليم(. فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم. ومن لا يصفى قلبه لا تصح طاعته. ويكون كمريض ظهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلاء وشرب الدواء. فاشتغل بالطلاء وترك شرب الدواء. فأزال ما بظاهره. ولم يزل ما بباطنه. وأصل ما على ظاهره مما فى باطنه. فلا يزال جربه يزداد أبدا مما فى باطنه. فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة فى القلب يظهر أثرها على الجوارح فلو زال ما فى باطنه استراح الظاهر. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى علموا هذه الأخلاق. وعلموا أنها مذمومة من وجه الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون. وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك. وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم فى العلم. فأما هم فإنهم أعظم عند الله من أن يبتليهم. فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة. وطلبوا العلو والشرف. وغرورهم أنهم ظنوا ذلك ليس تكبرا. وإنما هو عز الدين وإظهار لشرف العلم. ونصرة الدين. وغفلوا عن فرح إبليس به. ونصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لماذا كانت. وبماذا أرغم الكافرين وغفلوا عن تواضع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم حتى عوتب عمر رضى الله عنه فى بذاذته عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم عزنا الله بالإسلام. ولا نطلب العزة فى غيره. ثم هذا المغرور يطلب العز للدين بالثياب الرفيعة. ويزعم أنه يطلب عز الدين وشرفه. ومهما أطلق اللسان فى الحسد فى أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد. ويقول: إنما هو غضب للحق ورد على المبطل فى عدوانه وظلمه. وهذ مغرور. فإنه لو طعن في غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح - وإن أظهر الغضب عند الناس بأنه يحبه. وربما يظهر العلم ويقول: غرضى به أن أفيد الخلق. وهو هراء لأنه لو كان غرضه صلاح الخلق لأحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله أو فوقه. وربما يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثنى عليه. فإذا سئل عن ذلك قال: إنما غرضى أن أنفع المسلمين. وأن أرفع عنهم الضرر. وهو مغرور. ولو كان غرضه ذلك فرح به إذا جرى على يد غيره ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع فى أحد يغضب. وربما أخذ من أموالهم فإن خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت أحدها: أنه مال لا مالك له. والثانى: أنه لمصالح المسلمين. والثالث: أنه إمام. وهل يكون إماما إلا من أعرض عن الدنيا كالأنبياء والصحابة. ومثله: قول عيسى عليه السلام: العالم السوء كصخرة وقعت فى الوادى فلا هى تشرب الماء ولا هى تترك الماء يخلص إلى الزرع. وأصناف غرور أهل العلم كثيرة. وما يفسد هؤلاء أكثر مما يصلحونه. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى حكموا العلم. وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات. واجتنبوا ظاهر المعاصى. وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء. والحسد والكبر والحقد. وطلب العلو. وجاهدوا أنفسكم فى التبرى منها وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية. ولكنهم مغرورون إذ بقى فى زوايا القلب بقايا من خفايا مكايد الشيطان. خبايا خدع النفس ما دق وغمض. فلم يفطنوا لها. وأهملوها. ومثالهم كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه. وفتش عن كل حشيش فقلعه. إلا أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز فلما غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع. وهؤلاء إن غيروا تغيروا. وربما تركوا مخالطة الخلق استكبارا. وربما نظروا إليهم بعين الحقارة. وربما يجتهد بعضهم فى تحسين نظمه لئلا ينظر إليه بعين الركاكة. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى تركوا المهم من العلوم. واقتصروا على علوم الفتاوى فى الحكومات والخصومات. وتفصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش. وخصصوا اسم الفقيه. وسموه: الفقيه وعلم المذهب. وربما ضيعوا مع ذلك علم الأعمال الظاهرة والباطنة ولم يتفقدوا الجوارح. ولم يحرسوا اللسان من الغيبة والبطن عن الحرام. والرجل عن السعى إلى السلاطين. وكذلك سائر الجوارح. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد. وسائر المهلكات. وهؤلاء مغرورون من وجهين: احدهما: من حيث العمل وقد ذكرت وجه علاجه فى الإحياء وأن مثالهم كمثل المريض الذى تعلم الدواء من الحكماء ولم يعلمه أو يعمله وهؤلاء مشرفون على الهلاك حيث أنهم تركوا تزكية أنفسهم وتخليتها. فاشتغلوا بكتاب الحيض والديات والدعاوى والظهار واللعان. وضيعوا أعمارهم فيها. وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم ورجوع أحدهم قاضيا ومفتيا. ويطعن كل واحد فى صاحبه. وإذا اجتمعوا زال الطعن. والثانى: من حيث العلم وذلك لظنهم أنه لا علم إلا بذلك وأنه المنجى الموصل. وإنما المنجى الموصل حب الله. ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته. بمن تتحقق معرفة الله ومعرفته ثلاث: معرفة الذات ومعرفة الصفات. ومعرفة الأفعال. ومثال هؤلاء مثال من اقتصر على بيع الزاد فى طريق الحاج. ولم يعلم أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى ومعرفة صفاته المخوفة. والزاجرة ليستشعر القلب الخوف. ويلازم التقوى كما قال تعالى:(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين(. ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولا يهمه إلا العلم بطريق المجادلة والإلزام. وإقحام الخصم ودفع الحق لأجل المباهاة. وهو طول الليل والنهار فى التفتيش فى مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران. وهؤلاء لم يقصدوا العلم. وإنما قصروا مباهاة الأقران ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيرا لهم من علم لا ينفع إلا فى الدنيا. ونفعه فى الدنيا التكبر. وذلك ينقلب فى الآخرة نارا تلظى. وأما أدلة المذاهب فيشتمل عليها كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أقبح غرور هؤلاء. الفرقة السادسة وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم. واستكثروا من علم المقولات المختلفة. واشتغلوا بتعلم الطريق فى مناظرة أولئك وإفحامهم. ولكنهم على فرقتين: إحداهما: ضالة مضلة والأخرى محقة. أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها عن ضلالتها وظنها بنفسها النجاة. وهو فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا. وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا شروط الأدلة ومناهجها. فرأوا الشبه دليلاً. والدليل شبهة. وأما غرور المحقة فمن حيث أنهم ظنوا بالجدال أنه أهم الأمور وأفضل القربات فى دين الله تعالى. وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يتفحص ويبحث. وإن من صدق الله تعالى من غير بحث وتحرير دليل فليس ذلك بمؤمن وليس بكامل ولا بمقرب عند الله ولم يلتفتوا إلى القرن الأول. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد لهم بأنهم خير الخلق ولم يطلب منهم الدليل وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. أنه قال:(ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه. إلا أوتوا الجدل(. الفرقة السابعة اشتغلوا بالوعظ. وأعلاهم نية من يتكلم فى أخلاق النفس وصفات القلب. من الخوف والرجاء، والصبر والشكر والتوكل، والزهد واليقين والإخلاص والصدق وهم مغرورون لأنهم يظنون بأنفسهم إذا تكلموا بهذه الصفات. ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بها. وهم منفكون عنها إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين. وغرورهم أساس الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب. ويظنون أنهم ما تبحروا فى علم المحبة إلا وهم من الناجين عند الله تعالى وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلودهم من العمل وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم لأنهم يظنون أنهم يحببون فى الله ورسوله. وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون ولا وقفوا على خطايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون. وكذلك جميع الصفات. وهم أحب فى الدنيا من كل أحد. ويظهرون الزهد فى الدنيا لشدة حرصهم على الدنيا. وقوة رغبتهم فيها. ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين. ويظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون ويخوفون بالله وهم منه آمنون ويذكرون بالله وهم له ناسون. ويقربون إلى الله تعالى وهم منه متباعدون. ويذمون الصفات المذمومة وهم بها متصفون ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا. لو منعوا عن مجالسهم التى يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الأرض بما رحبت ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق. ولو ظهر من أقرانه أحدهم ممن أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا. ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله تعالى إليه فهؤلاء أعظم الناس غرورا وأبعدهم عن التنبيه والرجوع إلى السداد. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهج الواجب فى الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله تبارك وتعالى. فاشتغلوا بالطامات. والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للإغراب. وطائفة اشتغلوا بطيارات النكت ونسجيع الألفاظ وتلفيقها. وأكثر همهم فى الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق. وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض فاسدة. وهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا. فإن الأولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم. وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن السبيل. ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصى. ورغبة فى الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيل والمراكب ويقنطهم من رحمة الله تعالى. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى منهم فتنوا بكلام الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا فيعيدونها على نحو ما يحفظونه من كلام حفظوه من غير إحاطة بمعانيها. فيعظهم بفعل ذلك على المنابر. وبعضهم فى المحاريب. وبعضهم فى الأسواق مع الجلساء. ويظن أنه ناج عند الله. وأنه مغفور له الفرقة العاشرة وفرقة أخرى شغلوا أوقاتهم فى علم الحديث. أعنى سماعه. وجمع الروايات الكثيرة منه. وطلب الأسانيد الغريبة العالية. فهمة أحدهم أن يدور فى البلاد. ويروى عن الشيوخ ليقول: أنا أروى عن فلان. ورأيت فلانا. ولقيت فلانا. ومعى من الأسانيد مع ما ليس مع غيرى. وغرورهم من وجوه: منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم السنة وتدبر معانيها. وإنما قاصرون على النقل. ويظنون أن ذلك يكفيهم. وهيهات. بل المقصود من الحديث فهم وتدبر معانيه. فالأول فى الحديث السماع. ثم التفهم ثم الحفظ. ثم العمل. ثم النشر. وهؤلاء اقتصروا على السماع لا عمل. ثم لم يحكموه. وإن كان لا فائدة فى الاقتصار عليه والحديث فى هذا الزمان يقرئونه الصبيان وهم غرة غافلون. والشيخ الذى يقرأ عليه ربما كان غافلا بحيث لو صحف وغير الحديث لا يعلم. وربما ينام ويروى عنه الحديث وهو لا يعلم. وكل ذلك غرور. وإنما الأصل فى استماع الحديث أن يسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو من الصحابة. أو من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين. ويصير سماعه من الصحابة كسماعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو يصغى ويحفظ. ويرويه كما حفظه حتى لا يشك فى حرف واحد منه. وإن شك فيه لم يجز له أن يرويه. وحفظ الحديث يكون بطريقتين: إحداهما: بالقلب مع الاستدامة بالتكرار والذكر. والثانية: يكتب كما يسمع. ويصحح المكتوب. ويحفظ كيلا تصل إليه يد من يغيره. ويكون حفظه الكتاب أن يكون فى خزانته محروسا حتى لا تمتد عليه يد غيره أصلا. ولا يجوز أن يكتب سماع الصبى والغافل والنائم ولو جاز ذلك أن يكتب سماع الصبى فى المهد. وللسماع شروط كثيرة. والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته. وله مفهومات كثيرة. كما للقرآن. وروى عن بعض المشايخ أنه حضر فى مجلس السماع وكان أول حديث سمعه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه(. فقام وقال: يكفينى هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره. وهكذا يكون سماع الأكياس. وهو أبو السعيد بن أبى الخير المنهى حضر فى مجلس ابن أحمد السرخسى. وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو والشعر واللغة وغيرها. واغتروا به وزعموا أنه غفر لهم. وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين والسنة بعلم اللغة والنحو. فأفنوا أعمارهم فى دقائق النحو واللغة. وذلك غرور. فلو عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة الترك. والمضيع عمره فى لغة العرب كالمضيع عمره فى لغة الترك والهند. وإنما فارقهم لورود الشرع فيكفى فى اللغة علم الغريبين فى الأحاديث والكتاب. ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب. وأما التعمق إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه. وصاحبه مغرور. الصنف الثانى من المغرورين أرباب العبادات والأعمال والمغرورون فرق كثيرة.
فمنهم من غروره فى الجهاد ومنهم من غروره فى الزهد. الفرقة الأولى فمنهم فرقة أهملوا الفرائض. واشتغلوا بالنوافل. وربما تعمقوا حتى خرجوا إلى السرف والعدوان كالذى تغلب عليه الوسوسة فى الوضوء فيبالغ فيه. ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته فى فتوى الشرع. ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة من النجاسة. وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض. ولو انقلب بهذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أولى وتشبه بسيرة الصحابة رضى الله عنهم. إذ توضأ عمر رضى الله عنه بماء فى جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة. وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال وخوفا من الوقوع فى الحرام. الفرقة الثانية وفرقة أخرى غلب عليهم الوسوسة فى نية الصلاة فلا يدعه الشيطان يعتقد نية صحيحة. بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة. وتخرج الصلاة عن الوقت. وإن تم تكبيرة الاحرام فيكون فى قلبه تردد. فى صحة نيته. وقد يتوسوس فى التكبيرة فيكون قد تغير صفة التكبير لشدة الاحتياط. ويفوته سماع الفاتحة. ويفعلون ذلك فى أول الصلاة. ثم يفعلون فى جميع الصلاة. ولا يهزون قلوبهم ويغترون بذلك. ولم يعلموا أن حضور القلب فى الصلاة هو الواجب. وإنما غرهم إبليس وزين لهم. وقال لهم: هذا الاحتياط تتميزون به عن العوام وأنتم على خير عند ربكم. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة فى إخراج حروف الفاتحة. وسائر الأذكار من مخارجها. فلا تزال تحتاط فى التشديدات. والفرق بين الضاد والظاء. لا يهمه غير ذلك ولا يتفكر فى أسرار الفاتحة ولا فى معانيها. ولم يعلم أنه لم يكلف الخلق فى تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا ما جرت به عادتهم فى الكلام. وهذا غرور عظيم. ومثالهم مثال من حمل رسالة إلى مجلس السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها. فأخذ يؤدى الرسالة ويتأنق فى مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو مع ذلك غافل عن مقصود الرسالة. ومراعاة حرمة المجلس. وبهذا يرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن. فيهدرونه هدرا. وربما يختمونه فى اليوم والليلة ختما. وألسنتهم تجرى به. وقلوبهم تتردى فى أودية الأماني والتفكر فى الدنيا. ولا يتفكر فى معانى القرآن. لينزجر بزواجره. ويتعظ بمواعظه. ويقف عند أوامره ونواهيه. ويعتبر بمواضع الاعتبار منه. ويتلذذ به من حيث المعنى لا من حيث النظم. ومن قرأ كتاب الله تعالى فى اليوم والليلة مائة مرة. ثم ترك أوامره ونواهيه فهو مستحق العقوبة. وربما قد يكون له صوت لين فهو يقرأ ويتلذذ به. ويغتر باستلذاذه. ويظن أن ذلك مناجاة الله سبحانه تعالى. وسماع كلامه. وهيهات ما أبعده. إذا لذاته فى صوته. ولو أدرك لذة كلام الله تعالى ما نظر إلى صوته وطيبه. ولا تعلق خاطره به. ولذة كلام الله إنما هى من حيث المعنى. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى اغتروا بالصوم. وربما صاموا الدهر. وصاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم من الغيبة. ولا خواطرهم من الربا. ولا بطونهم من الحرام عند الافطار ولا من الهذيان من أنواع الفضول. وذلك غرور عظيم. وهؤلاء تركوا الواجب. وأبقوا المندوب. فظنوا أنهم يسلمون. وهيهات. إنما يسلم من أتى الله بقلب سليم. الفرقة السادسة وفرقة أخرى أخذت فى طريق الخشية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ينكر على الناس. ويأمرهم بالخير وينسى نفسه!. وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة. وإذا باشر منكرا أنكر عليه. وغضب وقال: أنا المحتسب. فكيف تنكر علىَّ. وقد تجمع الناس فى مجلسه أو مسجده. ومن تأخر عنه أغلظ عليه القول. وإنما غرضه الرياء والسمعة وحب الرئاسة. وعلامة أنه لو قام بالمسجد غيره تجرأ عليه. بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله تعالى ولو جاء غيره وأذن فى وقت غيبته قامت عليه القيامة. وقال: لم أخذ حقى!. وزوحمت!. ومنهم من يتقيد أمام مسجد ويظن أنه على خير. وإنما غرضه أن يقال: إنه إمام المسجد. الفرقة السابعة وفرقة أخرى جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهما. ولم يراقبوا قلوبهم. ولم يطهروا ظواهرهم وبواطنهم. وربما كانت قلوبهم متعلقة ببلادهم. وتراهم يتحدثون بذلك. ويقولون: جاورنا بمكة كذا كذا سنة. وهم مغرورون لأن الأقوم لهم أن يكونوا ببلدة وقلوبهم متعلقة بمكة. وإن جاور أحدهم يجب عليه أن يحفظ حق الجوار. فإن جاور بمكة حفظ حق الله تعالى. وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبى صلّى الله عليه وسلم. ومن يقدر على ذلك. وهؤلاء مغرورون بالظواهر. وظنوا أن الحيطان تنجيهم. وهيهات. وربما لا تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير. وما أصعب المجاورة فى حق الخلق. فكيف بمجاورة الخالق!. وما أحسن مجاورته بحفظ جوارحه وقلبه. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى زهدت فى المال وقنعت من الطعام واللباس بالدون. ومن السكن بالمساجد. وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد. وهم مع ذلك راغبون فى الرياسة والجاه. والزهادة إنما تحصل بأحد أشياء: إما بالتعلم أو بالوعظ. أو بمجرد الزهد. فلقد تركوا أهون الأمرين. وباءوا بأعظم المهلكات. فإن الجاه أعظم من المال. ولو أخذ المال وترك الجاه. كان إلى السلامة أقرب. وهؤلاء مغرورون بظنهم أنهم من الزهاد فى الدنيا. ولم يفهموا كيف مكر بهم. وربما تقدم الأغنياء على الفقراء. ومنهم من يعجب بعلمه. ومنهم من يؤثر الخلوة وهو عن شروطها خال. ومنهم من يعطى المال فلا يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده. وهو راغب فى الدنيا. خائف من ذم الناس. ومنهم من شدد على نفسه فى أعمال الجوامع. حتى يصلى فى اليوم مثلا ألف ركعة ويختم القرآن وهو فى جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات. وربما يظن أن العبادة الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات. وهيهات ذرة من ذى تقوى. وخلق واحد من خلق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح. ثم قد يغتر بقول من يقول له: إنك من أوتاد الأرض. وأولياء الله وأحبائه فيفرح لذلك. ويطهر له تزكية نفسه. ولو شوتم يوما واحدا ثلاث مرات أو مرتين لكفر وجاهد من فعل ذلك به. وربما قال لمن سبه: لا يغفر الله لك أبدا. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض. فتارة يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل. وأمثال هذه النوافل فلا يجد لصلاة الفريضة لذة ولا خير من الله تعالى لشدة حرصه على المبادرة فى أول الوقت. وينسى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ما تقرب المتقربون بأفضل ما افترضه الله عليهم(. وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الغرور. بل قد يتعين على الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت. أو نفلان أحدهما يضيق وقته والآخر متسع وقته. فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. فإن المعصية ظاهرة. وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض. كتقديم الفرائض كلها على النوافل. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التى لا قائم بها على ما قدم بها غيره. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه. وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد. وتقديم الدين على القروض غيره وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك ويرتبه. ولكن الغرور فى الترتيب دقيق خفى لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون فى العلم رضى الله عنهم وغفر لهم. الصنف الثالث من المغرورين
أرباب الأموال وفرقهم الفرقة الأولى فرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والصهاريج للماء. وما يظهر للناس. ويكتبون أسماءهم بالآجر عليه. ليتخلده ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم. وهم يظنون أنهم استحقوا المغفرة بذلك. وقد اغتروا فيه من وجهين. أحدهما: أنهم قد اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشا والجهات المحظورة. وهم قد تعرضوا لسخط الله فى كسبها. فإذن قد عصوا الله فى كسبها. فالواجب عليهم فى التوبة ردها إلى ملاكها إن كانوا أحياء أو إلى ورثتهم. فإن لم يبق منهم أحد وانقرضوا فالواجب صرفها فى أهم المصالح. وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين. وأى فائدة فى بنيان يستغنى عنه ويتركه ويموت. وإنما غلب على هؤلاء الرياء والشهرة ولذة الذكر. والوجه الثانى: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير فى الانفاق. وعلو الأبنية. ولو كلف أحد منهم أن ينفق دينارا على مسكين لم تسمح نفسه بذلك. لأن حب المدح مستكن الفرقة الثانية وفرقة أخرى ربما اكتسبوا الحلال. واجتنبوا الحرام وأنفقوه على المساجد وهى أيضا مغرورة من وجهين: أحدهما: الرياء وطلب السمعة والثناء. فإنه ربما يكون فى جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم. فإن المساجد كثيرة والغرض منها الجامع وحده فيجزئ عن غيره. وليس الغرض بناء المسجد فى كل سكة وفى كل درب والمساكين والفقراء محتاجون. وإنما خف عليهم دفع المال فى بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس. ولما يسمع من الثناء عليه من الخلق فيظن أنه يعمل لله وهو يعمل لغير الله. والله أعلم بذلك. وإنما نيته عليه غضب. وإنما قال: قصدت أنه لله تعالى. والثانى: أنه يصرف ذلك فى زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهى عنها. الشاغلة قلوب المصلين لأنهم ينظرون إليها وتشغلهم عن الخشوع فى الصلاة. وعن حضور القلب. وهو المقصود. وكلما طرأ على المصلين فى صلاتهم وفى غير صلاتهم فهو فى رقبة البانى للمسجد. إذ لا قال الحسن رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يبنى مسجده بالمدينة أتاه جبريل فقال له: (ابنه سبعة أذرع طولاً فى السماء لا تزخرفه ولا تنقشه(. وغرور هؤلاء أنهم رأوا المنكر معروفا فاتكلوا عليه. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى ينفقون الأموال فى الصدقات على الفقراء والمساكين. ويطلبون بها المحافل الجامعة. ومن الفقراء من عادته الشكر. والإفشاء للمعروف. ويكرهون التصدق فى السر. ويرون إخفاء الصدقة للفقير لما يأخذه منهم خيانة عليهم. وكفرانا. وربما تركوا جيرانهم جائعين. ولذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما:(فى آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهوى لهم السفر ويبسط لهم فى الرزق ويرجعون مجرمين مسلوبين يهوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال وجاره مأسور إلى جنبه فلا يواسيه ولا يتفقده(. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى من أرباب الأموال. يحفظون الأموال. ويمسكونها بحكم البخل ويشتغلون بالعبادات الدينية التى لا يحتاجون فيها إلى نفقة. كصيام النهار. وقيام الليل. وختم القرآن. وهؤلاء مغرورن. لأن البخل المهلك قد استولى على باطنهم. فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال. فاشتغلوا بطلب فضائل وهم مشتغلون عنها. ومثالهم مثال من دخلت فى ثوبه حية. وقد أشرف على الهلاك. وهم مشغول عنها بطلب السكنجبين ليسكن به الصفراء. ومن لدغته الحية كيف يحتاج إلى ذلك!. ولذلك قيل لبشر الحافى: إن فلانا كثير الصوم والصلاة. فقال: المسكين ترك حاله. ودخل فى حال غيره. وإنما حال هذا إطعام الطعام للجائع. والإنفاق على المساكين. فهو أفضل له من تجويع نفسه. ومن صلاته. مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى غلب عليهم البخل. فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط. ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الردئ الذى يرغبون عن. ويطلبون من الفقراء من يخدمهم. ويتردد فى حاجاتهم. أو من يحتاج إليه فى المستقبل للاستئجار لهم فى الخدمة. ومن لهم فيه غرض. ويسلمونها إلى شخص بعينه واحد من الكبار. ممن يستظهر بخشيته. لينال بذلك عنده منزلة. فيقوم بحاجته. وكل ذلك مفسد للنية ومحبط للعمل وصاحبه مغرور يظن أنه مطيع لله تعالى وهو فاجر إذا يطلب بعبادة الله تعالى عوضا من غيره. فهذا وغيره وأمثاله مغرورون بالأموال. الفرقة السادسة وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب والأموال والفقراء. اغتروا بحضور مجالس الذكر. واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم. فاتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل. ودون الاتعاظ أجرا. وهم مغرورن لأن فضل مجالس الذكر لكونها رغبة فى الخير. وإذا لم تهج الرغبة فلا خير فيها. والرغبة محمودة. لأنها تبعث على العمل. وإن لم تبعث على العمل فلا خير فيها. وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ. وإنما يداخله رقه كرقة النساء فيبكى!. وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزال يصفر بين يديه ويقول: يا سلام سلم!. ونعوذ بالله!. والحمد لله. وحسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!. ويظن أنه قد أتى بالخير كله. وهو مغرور. ومثاله مثال المريض. الذى يحضر إلى مجالس الأطباء. ويسمع ما يصفونه من الأدوية ولا يعقلها. ولا يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك. والجائع الذى يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة. فكل وعظ لا يغير منك صفة تغير بدونها أفعالك. حتى تقبل على الله وتعرض عن الدنيا. وتقبل إقبالاً قويا. وإن لم تفعل فذلك الوعظ زيادة حجة عليك. فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا. الصنف الرابع من المغرورين المتصوفة
وما أغلب الغرور على هؤلاء المغرورين!! الفرقة الأولى منهم متصوفة أهل هذا الزمان إلا من عصمه الله. اغتروا بالزى والمنطق والهيبة. فشابهوا الصادقين من الصوفية فى زيهم وهيئتهم وألفاظهم وآدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم. وأموالهم الظاهرة فى السماع. والرقص. والطهارة. والصلاة. والجلوس على السجادة مع إطراق الرأس. وإدخاله فى الجيب كالمتفكر وفى أنفاس الصعداء. وفى خفض الصوت فى الحديث. وفى الصياح. إلى غير ذلك. فلما تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك ينجيهم. ولم يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة. والرياضة والمراقبة للقلب فى تطهير الباطن والظاهر من الآثار الخفية والجلية. وكل ذلك من منازل الصوفية. ثم إنهم يتكالبون على الحرام والشبهات. وأموال السلاطين. ويتنافسون فى الرغيف. والفلس والحبة. ويتحاسدون على النقير والقطمير. ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه فى شئ من غرضه. وهؤلاء مغرورن. ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال والمقاتلين ثبتت أسماؤهم فى الديوان فتزيت بزيهم. ووصلت إلى الملك. فعرضت على ميزان العرض. فوجدت عجوز سوء. فقيل لها: أما تستحين فى استهتارك بالملك! اطرحوها حول الفيل. فطرحوها حول الفيل فركضها حتى ماتت الفرقة الثانية وفرقة أخرى ازدادت على هؤلاء فى الغرور. إذا صعب عليها الاقتداء فى بذاذة الثياب. والرضا بالدون فى المطعم والمنكح والمسكن. وأرادت أن تتظاهر بالتصوف. ولم تجد بدا من التزيى بزيهم. فتركت الخز والإبريسم. وطلبت المرقعات النفسية. والفوط الرقيقة. والسجادة المصبوغة. وقيمتها أكثر من قيمة الخز والإبريسم. ولا يجتنبون معصية ظاهرة. فكيف باطنه. وإنما غرضهم رغد العيش. وأكل أموال السلاطين. وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير. وضرر هؤلاء أشد من ضرر اللصوص. لأن هؤلاء يسرقون القلوب بالزى. ويقتدى بهم الغير. فيكون بسبب هلاكهم. وإن اطلع على فضائحهم ربما ظن أهل التصوف كذلك. فيصرح بذم الصوفية على الإطلاق. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى ادعت علم المكاشفة. ومشاهدة الحق. ومجاوزة المقامات. والوصول والملازمة فى عين الشهود. والوصول إلى القرب. ولا يعرف ذلك. ولا وصل إليه باللفظ والإثم. ويلفق من الألفاظ الطامة كلمات. فهو يردها. ويعلن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين. وهو ينظر إلى الفقراء والمقرئين. والمفسرين والمحدثين. وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلا عن العوام. حتى أن الفلاح ليترك فلاحته. والحايك حياكته. ويلازمهم أياما معدودة. ويتلقف تلك الكلمات الزائفة. فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحى. ويخبر عن أسرار الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء. فيقول فى العباد: أجراء متعبدون. ويقول فى العلماء: إنهم بالحديث محجوبون. ويدعى لنفسه أنه الواصل إلى الحق. وأنه من المقربين. وهو عند الله من الفجار المنافقين. وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين. لم يحكم قط علماً. ولا يهذب خلقاً. ولا يراقب قلباً سوى اتباع الهوى. وتلفيق الهذيانات. ولو اشتغلوا بما ينفعهم كان أحسن لهم. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى جاورت هؤلاء فأحسنت الأعمال. وطلبت الحلال. واشتغلت بتفقد القلب. وصار أحدهم يدعى المقامات من الزهد. والتوكل. والرضا. والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. فمنهم من يدعى الوجد وحب الله تعالى. ويزعم أنه واله بالله تعالى. ولعله قد يتخيل بالله تعالى خيالات فاسدة هى بدعة وكفر. فيدعى حب الله تعالى وقيل معرفته. وذلك لا يتصور قط. ثم إنه لا يخلو من مفارقة ما يكره الله تعالى. وإيثار هوى نفسه على أمر الله تعالى. وعن ترك الأمور حياء من الخلق. ولو خلا ما تركها حياء من الله تعالى. وليس يدرى أن كل ذلك يناقض الحب. وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادى من غير زاد ليصحح التوكل. وليس يدرى أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحافة رضى الله عنهم أجمعين. وقد كانوا أعرف بالتوكل منه. وما فهموا من التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد. بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله تعالى على لا الزاد. وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واتقى به. وما مقام من المقامات المنجية إلا وفيها غرور. وقد اعتبرها قوم. وقد ذكرنا مداخل الآفات فيها ربع المنجيات فى الإحياء. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى ضيقت على أنفسها أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص. وأهملت تفقد القلب والجوارح فى غير هذه الخصلة الواحدة. ومنهم من أهمل الحلال فى مطعمه وملبسه ومكسبه فيتعمق فى ذلك. ولم يدر المسكين أن الله تعالى لم يرض من العباد إلا بالكمال فى الطاعات فمن اتبع البعض وأهل البعض فهو مغرور. الفرقة السادسة وفرقة أخرى ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة. وقصدوا الخدمة للصوفية. فجمعوا قوما وتكلفوا خدمتهم. واتخذوا ذلك شبكة لحطام الدنيا. وجمعا للمال. وإنما غرضهم التكثير والتكبير. وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية. ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات لينفقوا عليهم. ليكثر أتباعهم. وينشر بالخدمة اسمهم. وبعضهم يأخذ من أموال السلطان وينفق عليهم. وبعضهم يأخذها لينفق فى طريق الحج على الصوفية. ويزعم أن غرضهم البر والإنفاق. وباعث جميعهم الرياء والسمعة. وذلك بإهمالهم لجميع أوامر الله تعالى ظاهرا. ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه. ومثال ذلك: كالذى ينفق ماله فى طريق الحاج. وكمن يعمر مسجد الله تعالى ويطينه بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة. الفرقة السابعة وفرقة أخرى اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق. وتطهير النفس من عيوبها. وصاروا يتعمقون فيها. فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خداعها علما وحرفة لهم. فهم فى جميع الأحوال يشتغلون بالفحص عن عيوب النفس. واستنباط دقيق الكلام فى آفاتها. فيقولون: هذا فى النفس عيب. والغفلة فى كونه عيبا عيب. ويشتغلون فيها بكلمات متلبسة. وضيعوا فى ذلك أوقاتهم. وكأنهم وقفوا مع أنفسهم. ولم يشتغلوا بخالقهم. فمثالهم مثال من اشتغل بأوقات الحج وعوائقه. ولم يسلك طريق الحج. وذلك لم يغنه عن الحج. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى جاوزت هذه المرتبة. وابتدأوا سلوك الطريق. وانفتحت لهم أبواب المعرفة. فكلما شموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها. وفرحوا بها. وأعجبهم غراسها. فتعلقت قلوبهم بالالتفات إليها. والتفكر فيها. وفى كيفية انفتاح بابها عليهم. واشتدادها على غيرهم. وكل ذلك غرور. لأن عجائب طريق الله تعالى ليس لها نهاية. فمن وقف مع كل أعجوبة. وتقيد بها قصرت خطاه. وحرم الوصول إلى المقصد. ومثاله مثال من قدم على ملك. فرأى باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار. ولم يكن قد رآها قبل ذلك. ولا رأى مثلها. فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذى يمكنه اللقاء بالملك فانصرف خائبا. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى جاوزت هؤلاء. ولم تلتفت إلى ما يفيض عليهم من الأنوار فى الطريق. ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة. ولم يلتفتوا إليها. ولا عرجوا عليها. جادين فى السير. فلما قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلوا. فوقفوا. ولم يتعدوا ذلك. وغلطوا. فإن لله سبعين حجابا من نور وظلمة. ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب إلا ويظن أنه قد وصل. وإليه الإشارة بقوله تعالى إخبار عن إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام إذ قال:(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) الآية. وما أكثر الحجب فى هذا المقام. فأول حجاب بين العبد وربه نفسه. فإنه أمر ربانى عظيم. وهو نور من أنوار الله تعالى. أعنى سر القلب الذى سيجلى حقيقة الحق كما هو حتى أنه يسمع جملة العالم كله. ويحيط به صور الورى. فعند ذلك سيشرق نوره إشراقا عظيما. إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه. وهو فى أول الأمر محجوب بمشكاة هى الساترة له. فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله تعالى عليه. ربما التفت صاحب القلب إلى القلب. فرأى من جماله الفائق ما يدهشه. فربما صرح وقال: أنا الحق. فإن لم يتضح ما وراء ذلك. ووقف عنك هلك. وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح عليه الصلاة والسلام. لما رأوا من إشراق نور الله تعالى عليه. فغلطوا. كمن رأى كوكبا فى مرآة. أو فى ماء. فيظن أن الكواكب المرآة. فيمد يده ليأخذه. فهو مغرور. هل هناك أنواع أخرى فى طريق السلوك وأنواع الغرور فى طريق السلوك إلى الله. لا تستقصى إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية. وذلك لا رخصة فى ذكره. وقد يجوز إظهاره حتى لا يقع المغرور فيها. وبالله التوفيق. وهو حسبى ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. تم ذلك بحمد الله وعونه على يد كاتبه لنفسه ولمن شاء الله من بعده راجى عفو ربه القريب المجيب الفقير عثمان ابن العلامة الشيخ سلمان الشافعى السويفى غفر الله ولوالديه وللمسلمين. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق