ويكي مصدر *
فضائح الباطنية
فضائح الباطنية
فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية
للغزالي
للغزالي
المستظهري في الرد على الباطنية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحي القيوم الذي لا يستولي على كنه قيامه وصف واصف الجليل الذي لا يحيط بصفة جلاله معرفة عارف العزيز الذي لا عزيز إلا وهو بقدم الصغار على عتبة عزه عاكف الماجد الذي لا ملك إلا وهو حول سرادق مجده طائف الجبار الذي لا سلطان إلا وهو لنفحات عفوه راج وسطوات سخطه خائف المتكبر الذي لا ولي إلا وقلبه على محبته وقف وقالبه لخدمته واقف الرحيم الذي لا شئ إلا وهو ممتط متن الخطر في هول المواقف لولا ترصده لرحمته بوعده السابق السالف المنعم الذي إن يردك بخير فليس لفضله راد ولا صارف المنتقم الذي إن يمسسك بضر فما له سواه كاشف جل جلاله وتقدست أسماؤه فلا يغره موالف ولا يضره مخالف وعز سلطانه فلا يكيده مراوغ ولا يناوئه مكاشف خلق الخلق أحزابا وأحسابا ورتبهم في زخارف الدنيا أرذالا وأشرافا وقربهم في حقائق الدين ارتباطا وانحرافا وجهلة وعرافا وفرقهم في قواعد العقائد فرقا وأصنافا يتطابقون ائتلافا ويتقاطعون اختلافا فافترقوا في المعتقدات جحودا واعترافا وتعسفا وإنصافا واعتدالا وإسرافا كما تباينوا أصلا وأوصافا هذا غني يتضاعف كل يوم ما له أضعافا وهو يأخذ جزافا وينفق جزافا وهذا ضعيف يعول ذرية ضعافا يعوزه قوت يوم حتى سأل الناس إلحافا وهذا مقبول في القلوب لا يلقى في حاجته إلا إجابة وإسعافا وهذا مبغض للخلق تهتضم حقوقه ضيما وإجحافا وهذا تقي موفق يزداد كل يوم في ورعه وتقواه إسرافا وإشراقا وهذا مخذول يزداد على مر الأيام في غيه وفساده تماديا واعتسافا ذلكم تقدير ربكم القادر الحكيم الذي لا يستطيع سلطان عن قهره انحرافا القاهر العليم الذي لا يملك أحد لحكمه خلافا رغما لأنف الكفرة الباطنية الذين أنكروا أن يجعل الله بين أهل الحق اختلافا ولم يعلموا أن الاختلاف بين الأمة يتبعه الرحمة كما تتبع العبرة اختلافهم مراتب وأوصافا وشكرا لله الذي وفقنا للاعتراف بدينه إعلانا وإسرارا وسددنا للانقياد لحكمه إظهارا وإضمارا ولم يجعلنا من ضلال الباطنية الذين يظهرون باللسان إقرارا ويضمرون في الجنان تماديا وإصرارا ويحملون من الذنوب أوقارا ويعلنون في الدين تقوى ووقارا ويحتقبون من المظالم أوزارا لأنهم لا يرجون لله وقارا ولو خاطبهم دعاة الحق ليلا ونهارا لم يزدهم دعاؤهم إلا فرارا فإذا أطل عليهم سيف أهل الحق آثروا الحق إيثارا وإذا انقشع عنهم ظله أصروا واستكبروا استكبارا فنسأل الله أن لا يدع على وجه الأرض منهم ديارا. ونصلي على رسوله المصطفى وعلى آله وخلفائه الراشدين من بعده صلوات بعدد قطر السحاب تهمي مدرارا وتزداد على ممر الأيام استمرارا وتتجدد على توالي الأعوام تلاحقا وتكرارا.
أما بعد، فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها ومد على طبقات الخلق ظلالها بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة، لكني جنحت إلى التواني لتحري في تعيين العلم الذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الذي يقع موقع الرضا من الرأي النبوي الشريف، فكانت هذه الحيرة تغبر في وجه المراد وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم وفنون مكرهم واحتيالهم ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم وإيضاح غوائلهم في تلبيسهم وخداعهم وانسلالهم عن ربقة الإسلام وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم بما يفضي إلى هتك أستارهم وكشف أغوارهم، فكانت المفاتحة بالاستخدام في هذا المهم في الظاهر نعمة أجابت قبل الدعاء ولبت قبل النداء، وإن كانت في الحقيقة ضالة كنت أنشدها وبغية كنت أقصدها، فرأيت الامتثال حتما والمسارعة إلى الارتسام حزما. وكيف لا أسارع إليه وإن لاحظت جانب الآمر ألفيته أمرا مبلغه زعيم الأمة وشرف الدين ومنشؤه ملاذ الأمم أمير المؤمنين وموجب طاعته خالق الخلق رب العالمين إذ قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وإن التفت إلى المأمور به فهو ذب عن الحق المبين ونضال دون حجة الدين وقطع لدابر الملحدين وإن رجعت إلى نفسي وقد شرفت بالخطاب به من بين سائر العالمين رأيت المسارعة إلى الإذعان والامتثال في حقي من فروض الأعيان إذ يقل على بسيط الأرض من يستقل في قواعد العقائد بإقامة الحجة والبرهان بحيث يرقيها من حضيض الظن والحسبان إلى يفاع القطع والاستيقان، فإنه الخطب الجسيم والأمر العظيم الذي لا تستقل بأعيانه بضاعة الفقهاء ولا يضطلع بأركانه إلا من تخصص بالمعضلة الزباء لما نجم في أصول الديانات من الأهواء واختلط بمسالك الأوائل من الفلاسفة والحكماء، فمن بواطن غيهم كان استمداد هؤلاء فإنهم بين مذاهب الثنوية والفلاسفة يترددون وحول حدود المنطق في مجادلاتهم يدندنون، ولقد طال تفتيشي عن شبه خصمه لما تقدر على قمعه وخصمه وفي مثل ذلك أنشد:
عرفت الشر لا للشر ** لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر ** من الناس يقع فيه
تظاهرت علي أسباب الإيجاب والإلزام واستقبلت الآتي بالاعتناق والالتزام وبادت إلى الامتثال والارتسام وانتدبت لتصنيف هذا الكتاب مبنيا على عشرة أبواب سائلا من الله سبحانه التوفيق لشاكله والصواب وسميته (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) والله تعالى الموفق لإتمام هذه النية وهذا ثبت الأبواب.
الباب الأول في الإعراب عن المنهج الذي استنهجته في سياق هذا الكتاب.
الباب الثاني في بيان ألقابهم والكشف عن السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة المضلة.
الباب الثالث في بيان درجات حيلهم في التلبيس والكشف عن سبب الإغترار بحيلهم مع ظهور فسادها.
الباب الرابع في نقل مذهبهم جملة وتفصيلا.
الباب الخامس في تأويلاتهم لظواهر القرآن واستدلالهم بالأمور العددية.
وفيه فصلان الفصل الأول في تأويلهم للظواهر والفصل الثاني في استدلالالتهم بالأعداد والحروف.
الباب السادس في إيراد أدلتهم العقيلة على نصرة مذهبهم والكشف عن تلبيساتهم التي زوقوها بزعمهم في معرض البرهان على إبطال النظر العقلي.
الباب السابع في إبطال استدلالهم بالنص على نصب الإمام المعصوم.
الباب الثامن في مقتضى فتوى الشرع في حقهم من التكفير والتخطئة وسفك الدم.
الباب التاسع في إقامة البرهان الفقهي الشرعي على أن الإمام الحق في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله.
الباب العاشر في الوظائف الدينية التي بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة.
هذه ترجمة الأبواب. والمقترح على الرأي الشريف النبوي مطالعة الكتاب جملة ثم تخصيص الباب التاسع والعاشر لمن يريد استقصاء ليعرف من الباب التاسع قدر نعمة الله تعالى عليه وليستبين من الباب العاشر طريق القيام بشكر تلك النعمة ويعلم أن الله تعالى إذا لم يرض أن يكون له على وجه الأرض عبد أرفع رتبة من أمير المؤمنين فلا يرضى أمير المؤمنين ان يكون لله على وجه الأرض عبد أعبد وأشكر منه نسأل الله تعالى أن يمده بتوفيقه ويسدده لسواء طريقه هذه جملة الكتاب والله المستعان على سلوك جادة الحق واستنهاج مسلك الصدق.
الباب الأول في الإعراب عن المنهج الذي استنهجته في هذا الكتاب
لتعلم أن الكلام في التصانيف يختلف منهجه بالإضافة إلى المعنى غوصا وتحقيقا وتساهلا وتزويقا وبالاضافة إلى اللفظ إطنابا وإسهابا واختصارا وايجازا وبالاضافة إلى المقصد تكثيرا وتطويلا واقتصارا وتقليلا فهذه ثلاثة مقامات ولكل واحد من الأقسام فائدة وآفة.
وأما المقام الأول فالغرض في الغوص والتحقيق والتعمق في أسرار المعاني إلى أقصى الغايات التوقي من إزراء المحققين وقدح الغواصين فانهم إذا تأملوه فلم يصادفوه على مطابقة أوضاع الجدال وموافقة حدود المنطق عند النظار استركوا عمل المصنف واستغثوا كلامه واعتقدوا فيه التقاعد عن شأو التحقيق في الكلام والإنخراط في سلك العوام ولكن له آفة وهي قلة جدواه وفائدته في حق الأكثرين فإن الكلام إذا كان على ذوق المراء والجدال لا على مساق الخطاب المقنع لم يستقل بدركه إلا الغواصون ولم يتفطن لمغاصاته إلا المحققون وأما سلوك مسلك التساهل والاقتصار على فن من الكلام يستحسن في المخاطبات ففائدته أن يستلذ وقعه في الأسماع ولا تكل عن فهمه والتفطن لمقاصده أكثر الطباع ويحصل به الإقناع لكل ذي حجى وفطنة وان لم يكن متبحرا في العلوم.
وهذا الفن من جوالب المدح والإطراء ولكن من الظاهريين وآفته أنه من دواعي القدح والإزراء ولكن من الغواصين فرأيت أن أسلك المسلك المقتصد بين الطرفين ولا أخلى الكتاب عن أمور برهانية يتفطن لها المحققون ولا عن كلمات إقناعية يستفيد منها المتوهمون فان الحاجة إلى هذا الكتاب عامة في حق الخواص والعوام وشاملة جميع الطبقات من أهل الإسلام وهذا هو الأقرب إلى المنهج القويم فلطالما قيل: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
المقام الثاني في التعبير عن المقاصد إطنابا وإيجازا
وفائدة الإطناب الشرح والايضاح المغني عن عناء التفكر وطول التأمل وآفته الإملال وفائدة الايجاز جمع المقاصد وترصيفها وايصالها إلى الأفهام على التقارب وآفته الحاجة إلى شدة التصفح والتأمل لاستخراج المعاني الدقيقة من الألفاظ الوجيزة الرشيقة والرأى في هذا المقام الاقتصاد بين طرفي التفريط والإفراط فإن الإطناب لا ينفك عن إملال والإيجاز لا يخلو عن إخلال فالأولى الميل إلى الاختصار فلرب كلام قل ودل وما أمل.
المقام الثالث في التقليل والتكثير
ولقد طالعت الكتب المصنفة في هذا الفن فصادفتها مشحونة بفنين من الكلام فن في تواريخ أخبارهم وأحوالهم من بدء أمرهم إلى ظهور ضلالهم وتسمية كل واحد من دعاتهم في كل قطر من الأقطار وبيان وقائعهم فيما انقرض من الأعصار فهذا فن أرى التشاغل به اشتغالا بالأسمار وذلك أليق بأصحاب التواريخ والأخبار فأما علماء الشرع فليكن كلامهم محصورا في مهمات الدين وإقامة البرهان على ما هو الحق المبين فلكل عمل رجال.
والفن الثاني في إبطال تفصيل مذاهبهم من عقائد تلقوها من الثنوية والفلاسفة وحروفها عن اوضاعها وغيروا ألفاظها قصدا للتغطية والتلبيس هذا أيضا لا أرى التشاغل به لان الكلام عليها وكشف الغطاء عن بطلانها بايضاح حقيقة الحق وبرهانها ليس يختص بالطائفة الذين هم نابتة الزمان فتجريد القصد إلى نقل خصائص مذاهبهم التي تفردوا باعتقادها عن سائر الفرق هو الواجب المتعين فلا ينبغي أن يؤم المصنف في كتابه إلا المقصد الذي يبغيه والنحو الذي يرومه وينتحيه فمن حسن إسلام المرء ترك مالا يعنيه وذلك مما لا يعنيه في هذا المقام وان كان الخوض فيه على الجملة ذبا عن الإسلام ولكن لكل مقال مقام فلنقتصر في كتابنا على القدر الذي يعرب عن خصائص مذهبهم وينبه على مدارج حيلهم ثم نكشف عن بطلان شبههم بما لا يبقى للمستبصر ريب فيه فتنجلي عن وجه الحق كدورة التمويه.
ثم نختم الكتاب بما هو السر واللباب وهو إقامة البراهين الشرعية على صحة الإمامة للمواقف القدسية النبوية المستظهرية بموجب الأدلة العقلية والفقهية على ما أفصح عن مضمونه ترجمة الأبواب.
الباب الثاني في بيان ألقابهم والكشف عن السبب الداعي لهم على نصب هذه الدعوة
وفيه فصلان.
الفصل الأول في ألقابهم التي تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة
وهي عشرة ألقاب الباطنية والقرامطة والقرمطية والخرمية والحرمدينية والإسماعيلية والسبعية والبابكية والمحمرة والتعليمية. ولكل لقب سبب.
أما الباطنية فانما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجرى في الظواهر مجرى اللب من القشر وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الحفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال معنى بالأوزار والأثقال وأرادوا ب الأغلال التكليفات الشرعية فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه وهم المرادون بقوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الآية وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين اريدوا بقوله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الإنسلاخ عن قواعد الدين إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.
وأما القرامطة فانما لقبوا بها نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط كان أحد دعاتهم في الابتداء فاستجاب له في دعوته رجال فسموا قرامطة وقرمطية وكان المسمى حمدان قرمط رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية في طريق وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقها فقال حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله أراك سافرت عن موضع بعيد فأين مقصدك فذكر موضعا هو قرية حمدان فقال له حمدان اركب بقرة من هذه البقر لتستريح عن تعب المشي فلما رآه مائلا إلى الزهد والديانة اتاه من حيث رآه مائلا إليه فقال اني لم اومر بذلك فقال حمدان وكأنك لا تعمل إلا بامر قال نعم قال حمدان وبأمر من تعمل فقال الداعي بامر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة فقال حمدان ذلك إذن هو رب العالمين فقال الداعي صدقت ولكن الله يهب ملكه لمن يشاء قال حمدان وما غرضك في البقعة التي انت متوجه اليها قال امرت أن ادعو اهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة وان استنقذهم من ورطات الذل والفقر واملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب فقال له حمدان انقذني انقذك الله وافض علي من العلم ما يحببني به فما اشد احتياجي إلى مثل ما ذكرته فقال الداعي وما امرت بان اخرج السر المخزون لكل أحد إلا بعد الثقة به والعهد عليه فقال حمدان وما عهدك فاذكره لي فاني ملتزم له فقال الداعي ان تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه ان لا يخرج سر الإمام الذي ألقيته اليك ولا تفشي سري أيضا. فالتزم حمدان سره ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما دعاه ثم انتدب حمدان للدعوة وصار اصلا من أصول هذه الدعوة فسمي أتباعه القرمطية.
وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته فانه راجع إلى طي بساط التكليف وحط أعباء الشرع عن المتعبدين وتسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات وخرم لفظ اعجمي ينبئ عن الشئ المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتز لرؤيته وقد كان هذا لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ وأباحوا النساء وان كن من المحارم وأحلوا كل محظور وكانوا يسمون خرمدينية فهؤلاء أيضا لقبوا بها لمشابهتهم اياهم في اخر المذهب وان خالفوهم في المقدمات وسوابق الحيل في الاستدراج وأما البابكية فاسم لطائفة منهم بايعوا رجلا يقال له بابك الخرمي وكان خروجه في بعض الجبال بناحية أذربيجان في أيام المعتصم بالله واستفحل أمرهم واشتدت شوكتهم وقاتهلم افشين صاحب حبس المعتصم مداهنا له في قتاله ومتخاذلا عن الجد في قمعه إضمارا لموافقته في ضلاله فاشتدت وطأة البابكية على جيوش المسلمين حتى مزقوا جند المسلمين وبددوهم منهزمين إلى أن هبت ريح النصر واستولى عليهم المعتصم المترشح للإمامة في ذلك العصر فصلب بابك وصلب أفشين بإزائه وقد بقي من البابكية جماعة يقال إن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون سرجهم وشموعهم ثم يتناهبون النساء فيثب كل رجل إلى إمرأة فيظفر بها ويزعمون ان من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد فإن الصيد من أطيب المباحات ويدعون مع هذه البدعة نبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام يقال له شروين ويزعمون أنه كان افضل من نبينا ﷺ ومن سائر الأنبياء قبله.
وأما الإسماعيلية فهي نسبى لهم إلى ان زعيمهم محمد بن إسماعيل ابن جعفر ويزعمون ان أدوار الإمامية انتهت به إذ كان هو السابع من محمد ﷺ وأدوار الإماميه سبعة سبعة عندهم فأكبرهم يثبتون له منصب النبوة وإن ذلك يستمر في نسبه وأعقابه وقد اورد أهل المعرفه بالنسب في كتاب الشجره أنه مات ولا عقب له وأما السبعيه فإنما لقبوا بها لأمرين أحدهما اعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة وأن الإنتهاء إلى السابع هو أخر الدور وهو المراد بالقيامة وأن تعاقب هذه الادوار لا آخر لها قط والثاني قولهم إن تدابير العالم السفلي اعني ما يحويه مقعر فلك القمر منوطة بالكواكب السبعة التي اعلاها زحل ثم المشتري ثم المريخ ثم الشمس ثم الزهرة ثم عطارد ثم القمر وهذا المذهب مسترق من ملحدة المنجمين وملتفت إلى مذهب الثنوية في أن النور يدبر اجزاؤه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة فهذا سبب هذا التقليب.
وأما المحمرة فقيل انهم لقبوابه لانهم صبغوا الثياب بالحمرة أيام بابك ولبسوها وكان ذلك شعارهم وقيل سببه انهم يقررون ان كل من خالفهم من الفرق وأهل الحق حمير والأصح هو التأويل الأول.
وأما التعليمية فانهم لقبوا بها لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي وإبطال تصرف العقول ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم وانه لا مدرك للعلوم إلا التعليم ويقولون في مبتدأ مجادلتهم الحق اما ان يعرف بالرأي وإما ان يعرف بالتعلم وقد بطل التعويل على الرأي لتعارض الاراء وتقابل الاهواء واختلاف ثمرات نظر العقلاء فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم وهذا اللقب هو الاليق بباطنية هذا العصر فان تعويلهم الاكثر على الدعوة إلى التعليم وإبطال الرأي وإيجاب اتباع الإمام المعصوم وتنزيله في وجوب التصديق والاقتداء به منزلة رسول الله ﷺ.
الفصل الثاني في بيان السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة وإفاضة هذه البدعة
مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة ان هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة فان مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين حتى اخرسوا السنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله في آخر الأمر وزعموا انا بعد أن عرفنا ان الانبياء كلهم ممخرقون ومنمسون فانهم يستعبدون الخلق بما يخيلونه اليهم فنون الشعبذة والزرق وقد تفاقم ام محمد واستطارت في الأقطار دعوته واتسعت ولايته واتسقت اسابه وشوكته حتى استولوا على ملك اسلافنا وانهمكوا في التنعم في الولايات مستحقرين عقولنا وقد طبقوا وجه الارض ذات الطول والعرض ولا مطمع في مقاومتهم بقتال ولا سبيل إلى استنزالهم عما اصروا عليه إلا بمكر واحتيال ولو شافهناهم بالدعاء إلى مذهبنا لتنمروا علينا وامتنعوا من الإصغاء الينا فسبيلنا ان ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم هم اركهم عقولا واسخفهم رأيا وألينهم عريكة لقبول المحالات واطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات وهم الروافض ونتحصن بالانتساب إليهم والاعتزاء إلى أهل البيت عن شرهم ونتودد اليهم بما يلائم طبعهم من ذكر ما تم على سلفهم من الظلم العظيم والذل الهائل ونتباكى لهم على ما حل بآل محمد ﷺ ونتوصل به إلى تطويل اللسان في أئمة سلفهم الذين هم أسوتهم وقدوتهم حتى إذا قبحنا أحوالهم في أعينهم وما ينقل إليهم شرعهم بنقلهم وروايتهم اشتد عليهم باب الرجوع إلى الشرع وسهل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين وان بقي عندهم معتصم من ظواهر القرآن ومتواتر الأخبار أوهمنا عندهم ان تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وان امارة الاحمق الانخداع بظواهرها وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها ثم نبث ايهم عقائدنا ونزعم انها المراد بظواهر القرآن ثم إذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج سائر الفرق بعد التحيز إلى هؤلاء والتظاهر بنصرهم.
ثم قالوا طريقنا ان نختار رجلا ممن يساعدنا على المذهب ونزعم انه من أهل البيت وانه يجب على كافة الخلق مبايعته وتتعين عليهم طاعته فانه خليفة رسول الله ومعصوم عن الخطأ والزلل من جهة الله تعالى. ثم لا نظهر هذه الدعوة على القرب من جوار الخليفة الذي وسمناه بالعصمة فان قرب الدار ربما يهتك هذه الاستار وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب إلى الدعوة ان يفتش عن حاله وان يطلع على حقيقة أمره ومقصدهم بذلك كله الملك والاستيلاء والتبسط في أموال المسلمين وحريمهم والانتقام منهم فيما اعتقدوا فيهم وعاجلوهم به من النهب والسفك وافاضوا عليهم من فنون البلاء.
فهذه غاية مقصدهم ومبدأ أمرهم ويتضح لك مصداق ذلك بمال سنجليه من خبائث مذهبهم وفضائح معتقدهم.
الباب الثالث في درجات حيلهم وسبب الاغترار بها مع ظهور فسادها
وفيه فصلان
الفصل الأول في درجات حيلهم
وقد نظموها على تسع درجات مرتبة ولكل مرتبة اسم اولها الزرق والتفرس ثم التأنيس ثم التشكيك ثم التعليق ثم الربط ثم التدليس ثم التلبيس ثم الخلع ثم السلخ ولنبين الآن تفصيل كل مرتبة من هذه المراتب ففي الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأمة.
أما الزرق والتفرس فهو أنهم قالوا ينبغي أن يكون الداعي فطنا ذكيا صحيح الحدس صادق الفراسة متفطنا للبواطن بالنظر إلى الشمائل والظواهر وليكن قادرا على ثلاثة أمور الأول وهو اهمها ان يميز بين من يجوز ان يطمع في استدراجه ويوثق بلين عريكته لقبول ما يلقى إليه على خلاف معتقده فرب رجل جمود على ما سمعه لا يمكن ان ينتزع من نفسه ما يرسخ فيه فلا يضيعن الداعي كلامه مع مثل هذا وليقطع طمعه منه وليلتمس من فيه انفعال وتأثر بما يلقى إليه من الكلام وهم الموصوفون بالصفات التي سنذكرها في الفصل الذي يلي هذا الفصل. وينبغي ان نتقي بكل حال بث البذر في السبخ والدخول إلى بيت فيه سراج يعني به الزجر عن دعوة العباسية مد الله دولتهمم إرغاما لأنوف أعدائها فان ذلك لا ينغرس أبد الدهر في نفوسهم كما لا ينغرس البذر في الأرض السبخة بزعمهم ويزجرون أيضا عن دعوة الأذكياء من الفضلاء وذوي البصائر بطرق الجدال ومكامن الاحتيال وبه يعنون الزجر عن بيت فيه سراج.
الثاني أن يكون مشتعل الحدس ذكي الخاطر في تعبير الظواهر وردها إلى البواطن اما اشتقاقا من لفظها أو تلقيا من عددها أو تشبيها لها بما يناسبها وبالجملة فإذا لم يقبل المستجيب منه تكذيب القرآن والسنة فينبغي ان يستخرج من قلبه معناه الذي فهمه ويترك معه اللفظ منزلا على معنى يناسب هذه البدعة فانه لو شافهه بالتكذيب لم يقبل منه.
الثالث من الزرق والتفرس ألا يدعو كل أحد إلى مسلك واحد بل يبحث أولا عن معتقده وما إليه ميله في طبعه ومذهبه فاما طبعه فان رآه مائلا إلى الزهد والتقشف والتقوى والتنظف دعاه إلى الطاعة والانقياد واتباع الأمر من المطاع وزجره عن اتباع الشهوات وندبه إلى وظائف العبادات وتأدية الامانات من الصدق وحسن المعاملة والأخلاق الحسنة وخفض الجناح لذوي الحاجات ولزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان كان طبعه مائلا إلى المجون والخلاعة قرر في نفسه ان العبادة بله وان الورع حماقة وان هؤلاء المعذبين بالتكاليف مثالهم مثال الحمر المعناة بالأحمال الثقيلة وانما الفطنة في اتباع الشهوة ونيل اللذة وقضاء الوطر من هذه الدنيا المنقضية التي لا سبيل إلى تلافي لذاتها عند انقضاء العمر وأما حال المدعو من حيث المذهب فان كان من الشيعة فلنفاتحه بان الأمر كله في بغض بني تيم وبني عدي وبني امية وبني العباس وأشياعهم وفي التبري منهم ومن اتباعهم وفي تولي الأئمة الصالحين وفي انتظار خروج المهدي وان كان المدعو ناصبيا ذكر له ان الأمة انما اجمعت على أبي بكر وعمر ولا يقدم إلا من قدمته الأمة حتى إذا اطمأن إليه قلبه ابتدأ بعد ذلك يبث الأسرار على سبيل الاستدراج المذكور بعد وكذلك ان كان من اليهود والمجوس والنصارى حاوره بما يضاهي مذهبهم من معتقداته فان معتقد الدعاة ملتقط من فنون البدع والكفر فلا نوع من البدعة إلا وقد اختاروا منه شيئا ليسهل عليهم بذلك مخاطبة تلك الفرق على ما سنحكي من مذهبهم.
أما حيلة التأنيس فهو ان يوافق كل من هو بدعوته في أفعال يتعطاها هو ومن تميل إليه نفسه واول ما يفعل الانس بالمشاهدة على ما يوافق اعتقاد المدعو في شرعه وقد رسموا للدعاة والمأذونين ان يجعلوا مبيتهم كل ليلة عند واحد من المستجيبين ويجتهدون في استصحاب من له صوت طيب في قراءة القرآن ليقرأ عندهم زمانا ثم يتبع الداعي ذلك كله بشئ من الكلام الرقيق واطراف من المواعظ اللطيفة الآخذه بمجامع القلوب ثم يردف ذلك بالطعن في السلاطين وعلماء الزمان وجهال العوام ويذكر ان الفرج منتظر من كل ذلك ببركة أهل بيت رسول الله ﷺ وهو فيما بين ذلك يبكي احيانا ويتنفس الصعداء وإذا ذكر آية أو خبرا ذكر ان لله سرا في كلماته لا يطلع عليها إلا من اجتباه الله من خلقه وميزه بمزيد لطفه فان قدر على أن يتهجد بالليل مصليا وباكيا عند غيبة صاحب البيت بحيث يطلع عليه صاحب البيت ثم إذا احس بانه اطلع عليه عاد إلى مبيته واضطجع كالذي يقصد اخفاء عبادته وكل ذلك ليستحكم الانس به ويميل القلب إلى الاصغاء إلى كلامه فهذه هي مرتبة التأنيس.
وأما حيلة التشكيك فمعناه ان الداعي ينبغي له بعد التأنيس ان يجتهد في تغيير اعتقاد المستجيب بان يزلزل عقيدته فيما هو مصمم عليه وسبيله ان يبتدئه بالسؤال عن الحكمة في مقررات الشرائع وغوامض المسائل وعن المتشابه من الايات وكل ما لا ينقدح فيه معنى معقول فيقول في معنى المتشابه ما معنى الر وكهيعص وحم عسق إلى غير ذلك من اوائل السور ويقال أترى ان تعيين هذه الحروف جرى وفقا بسبق اللسان أو قصد تعيينها لاسرار هي مودعة تحتها لم تصادف في غيرها وما عندي ان ذلك يكون هزلا وعبثا بلا فائدة ويشكك في الأحكام. ما بال الحائض تقضي الصوم دون الصلاة ما بال الاغتسال يجب من المني الطاهر ولا يجب من البول النجس ويشككه في أخبار القرآن فيقول ما بال أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وما معنى قوله {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} وقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} أفترى ضاقت القافية فلم يكمل العشرين أو جرى ذلك وفاقا بحكم سبق اللسان أو قصدا لهذا التقييد ليخيل أن تحته سرا وأنه في نفسه لسر ليس يطلع عليه إلا الأنبياء والأئمة الراسخون في العلم ما عندي أن ذلك يخلو عن سر وينفك من فائدة كامنة والعجب من غفلة الخلق عنها لا يثمرون عن ساق الجد في طلبها ثم يشككه في خلقة العالم وجسد الآدمي ويقول لم كانت السموات سبعا دون ان تكون ستة أو ثماني ولم كانت الكواكب السيارة سبعة والبروج اثني عشر ولم كان في رأس الآدمي سبع ثقب العينان والاذنان والمنخران والفم وفي بدنه ثقبان فقط ولم جعل رأس الآدمي على هيئة الميم ويداه إذا مدها على هيئة الحاء والعجز على هيئة الميم والرجلان على هيئة الدال بحيث إذا جمع الكل يشكل بصورة محمد أفترى أن فيه تشبيها ورمزا ما أعظم هذه العجائب وما أعظم غفلة الخلق عنها ولا يزال يورد عليه هذا الجنس حتى يشككه وينقدح في نفسه أن تحت هذه الظواهر أسرارا سدت عنه وعن أصحابه وينبعث منه شوق إلى طلبه وأما حيلة التعليق فبأن يطوي عنه جوانب هذه الشكوك إذا هو استكشفه عنها ولا ينفس عنه أصلا بل يتركه معلقا ويهول الأمر عليه ويعظمه في نفسه ويقول له لا تعجل فان الدين اجل من ان يبعث به أو ان يوضع في غير موضعه ويكشف لغير أهله هيهات هيهات!
جئتماني لتعلما سر سعدي ** تجداني بسر سعدي شحيحا
ثم يقول له لا تعجل ان ساعدتك السعادة سنبث اليك سر ذلك أما سمعت قول صاحب الشرع: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وهكذا لا يزال يسوقه ثم يدافعه حتى إن رآه أعرض عنه واستهان به وقال مالي ولهذا الفضول وكان لا يحيك في صدره حرارة هذه الشكوك قطع الطمع عنه وان رآه متعطشا إليه وعده في وقت معين وأمره بتقديم الصوم والصلاة والتوبة قبله وعظم أمر هذا السر المكتوم حتى إذا وافى الميعاد قال له ان هذه الأسرار مكتومة لا تودع إلا في سر محصن فحصن حرزك واحكم مداخله حتى اودعه فيه فيقول المستجيب وما طريقه فيقول ان آخذ عهد الله وميثاقه على كتمان هذا السر ومراعاته عن التضييع فانه الدر الثمين والعلق النفيس وادنى درجات الراغب فيه صيانته عن التضييع وما اودع الله هذه الأسرار أنبياءه إلا بعد أخذه عهدهم وميثاقهم وتلا قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الاية وقال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} وقال تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} وأما النبي ﷺ فلم يفشه إلا بعد أخذ العهد على الخلفاء واخذ البيعة على الانصار تحت الشجرة فان كنت راغبا فاحلف لي على كتمانه وانت بالخيرة بعده فان وفقت لدرك حقيقته سعدت سعادة عظيمة وان اشمأزت نفسك عنه فلا غرو فان كلا ميسر لما خلق له ونحن نقدر كانك لم تسمع ولم تحلف ولا ضير عليك في يمين صادقة فان أبى الحلف خلاه وإن انعم وأجاب فيه وجه الحلف واستوفاه.
وأما حيلة الربط فهو ان يربط لسانه بأيمان مغلظة وعهود مؤكدة لا يجسر على المخالفة لها بحال وهذه نسخة العهد:
يقول الداعي للمستجيب: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله عليه السلام وما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق أنك تسر ما سمعته مني وتسمعه وعلمته وتعلمه من أمري وأمر المقيم بهذه البلدة لصاحب الحق الإمام المهدي وأمور إخوانه وأصحابه وولده وأهل بيته وأمور المطيعين له على هذا الدين ومخالصة المهدي ومخالصة شيعته من الذكور والإناث والصغار والكبار ولا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا تدل به عليه إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به أو اطلق لك صاحب الأمر المقيم في هذا البلد أو غيره فتعمل حينئذ بمقدار ما نرسمه لك ولا تتعداه جعلت على نفسك الوفاء بما ذكرته لك وألزمته نفسك في حال الرغبة والرهبة والغضب والرضا وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه أن تتبعني وجميع من أسميه لك وأبينه عندك مما تمنع منه نفسك وان تنصح لنا وللإمام ولي الله نصحا ظاهرا وباطنا وألا تخون الله ولا وليه ولا أحدا من إخوانه وأوليائه ومن يكون منه ومنا بسبب من أهل ومال ونعمة وانه لا رأي ولا عهد تتناول على هذا العهد بما يبطله. فان فعلت شيئا من ذلك وانت تعلم انك قد خالفته فانت برئ من الله ورسله الأولين والآخرين ومن ملائكته المقربين ومن جميع ما انزل من كتبه على انبيائه السابقين وانت خارج من كل دين وخارج من حزب الله وحزب اوليائه وداخل في حزب الشيطان وحزب اوليائه وخذلك الله خذلانا بينا يعجل لك بذلك النقمة والعقوبة ان خالفت شيئا مما حلفتك عليه بتأويل أو بغير تأويل فان خالفت شيئا من ذلك فلله عليك ان تحج إلى بيته ثلاثين حجة نذرا واجبا ماشيا حافيا وان خالفت ذلك فكل ما تملكه في الوقت الذي تحلف فيه صدقة على الفقراء والمساكين الذين لا رحم بينك وبينهم وكل مملوك يكون لك في ملكك يوم تخالف فيه فهم أحرار وكل امرأة تكون لك أو تتزوجها في قابل فهي طالق ثلاثا بتة ان خالفت شيئا من ذلك وان نويت أو اضمرت في يميني هذه خلاف ما قصدت فهذه اليمين من أولها إلى آخرها لازمة لك والله الشاهد على صدق نيتك وعقد ضميرك وكفى بالله شهيدا بيني وبينك، قل: نعم، فيقول نعم. فهذا هو الربط.
وأما حيلة التدليس فهو انه بعد اليمين وتأكيد العهد لا يسمح ببث الأسرار إليه دفعة واحدة ولكن يتدرج فيه ويراعى أمورا الأول انه يقتصر في أول وهلة على ذكر قاعدة المذهب ويقول منار الجهل تحكيم الناس عقولهم الناقصة وآرائهم المتناقضة واعراضهم عن الاتباع والتلقي من اصفياء الله وائمته واوتاد أرضه والذين هم خلفاء رسوله من بعده فمنهم الذي اودعه الله سره المكنون ودينه المخزون وكشف لهم بواطن هذه الظواهر واسرار هذه الامثلة وان الرشد والنجاة من الضلال بالرجوع إلى القران وأهل البيت ولذلك قال عليه السلام لماقيل ومن أين يعرف الحق بعدك فقال الم اترك فيكم القرآن وعترتي وأراد به اعقابه فهم الذين يطلعون على معاني القرآن ويقتصر في أول وهلة على هذا القدر ولا يفصح عن تفصيل ما يقوله الإمام.
الثاني ان يحتال لإبطال المدرك الثاني من مدارك الحق وهو ظواهر القرآن فان طالب الحق إما أن يفزع إلى التفكر والتأمل والنظر في مدارك العقول كما أمر الله سبحانه وتعالى به فيفسد نظر العقل عليه بإيجاب التعلم والاتباع أو يفزع إلى ظواهر القرآن والسنة ولو صرح له بانه تلبيس ومحدث لم يسمع منه فليسلم له لفظه ولينزع عن قلبه معناه بان يقول هذا الظاهر له باطن هو اللباب والظاهر قشر بالاضافة إليه يقنع به من تقاعد به القصور عن درك الحقائق حتى لا يبقى له معتصم من عقل ومستروح من نقل.
الثالث ألا يظهر من نفسه انه مخالف للأمة كلهم وانه منسلخ عن الدين والنحلة إذ تنفر القلوب عنه ولكن يعتزي إلى ابعد الفرق عن المسلك المستقيم وأطوعهم لقبول الخرافات ويتستر بهم ويتجمل بحب أهل البيت وهم الروافض.
الرابع هو أن يقدم في أول كلامه أن الباطل ظاهر جلي والحق دقيق بحيث لو سمعه الأكثرون لأنكروه ونفروا عنه وان طلاب الحق والقائلين به من بين طلاب الجهل أفراد وآحاد ليهون عليه التميز عن العامة في إنكار نظر العقل وظواهر ما ورد به النقل.
الخامس إن رآه نافرا عن التفرد عن العامة فيقول له إني مفش إليك سرا وعليك حفظه فإذا قال نعم قال إن فلانا وفلانا يعتقدون هذا المذهب ولكنهم يسرونه ويذكر له من الأفاضل من يعتقد المستجيب فيه الذكاء والفطنة وليكن ذلك المذكور بعيدا عن بلده حتى لا يتيسر له المراجعة كما جعلوا الدعوة بعيدة عن مقر امامهم ووطنه فانهم لو أظهروها في جواره لافتضحوا بما يتواتر من أخباره وأحواله.
السادس ان يمنيه بظهور شوكة هذه الطائفة وانتشار أمرهم وعلو رأيهم وظفر ناصريه بأعدائهم واتساع ذات يدهم ووصول كل واحد منهم إلى مراده حتى تجتمع لهم سعادة الدنيا والآخرة ويعزى بعض ذلك إلى النجوم وبعضه إلى الرؤيا في المنام إن امكنه وضع منامات تنتهي إلى المستجيب على لسان غيره.
السابع ألا يطول الداعي إقامته ببلد واحدة فانه ربما اشتهر أمره وسفك دمه فينبغي ان يحتاط في ذلك فيلبس على الناس أمره ويتعرف إلى كل قوم باسم واخر وليغير في بعض الاوقات هيئته ولبسته خوف الآفات ليكون ذلك ابلغ في الاحتياط.
ثم بعد هذه المقدمات يتدرج قليلا قليلا في تفصيل المذهب للمستجيب وذكره له على ما سنحكي من معتقده.
وأما حيلة التلبيس فهو ان يواطئه على مقدمات يتسلمها منه مقبولة الظاهر مشهورة عند الناس ذائعة ويرسخ ذلك في نفسه مدة ثم يستدرجه منها بنتائج باطلة كقوله ان أهل النظر لهم أقاويل متعارضة الأحوال متساوية وكل حزب بما لديهم فرحون والمطلع على الجوهر الله ولا يجوز أن يخفي الله الحق ولا يوجد أحد كل الأمر إلى الخلق يتخبطون فيه خبط العشواء ويقتحمون فيه العماية العمياء إلى غير ذلك من مقدمات يت... مستعضلة.
وأما حيلة الخلع والسلخ وهي هما متفقان وانما يفترقان في أن الخلع يختص بالعمل فإذا أفضوا بالمستجيب إلى ترك حدود الشرع وتكاليفه يقولون وصلت إلى درجة الخلع أما السلخ فيختص بالاعتقاد الذي هو خلع الدين فإذا انتزعوا ذلك من قلبه دعوا ذلك سلخا. وسميت هذه الرتبة البلاغ الأكبر.
فهذا تفصيل تدريجهم الخلق واستغوائهم. فلينظر الناظر فيه وليستغفر الله من الضلال في دينه.
الفصل الثاني في بيان السبب في رواج حيلتهم وانتشار دعوتهم مع ركاكة حجتهم وفساد طريقتهم.
فإن قيل ما جليتموه من العظائم لا يتصور ان يخفى على عاقل وقد رأينا خلقا كثيرا وجما غفيرا من الناس يتابعونهم في معتقدهم وتابعوهم في دينهم فلعلكم ظلمتموهم بنقل هذه المذاهب عنهم في خلاف ما يعتقدونه. وهذا هو القريب الممكن فانهم لو أظهروا هذه الأسرار نفرت القلوب عنهم واطلعت النفوس على مكرهم وما باحوا بها إلا بعد العهود والمواثيق وصانوها إلا عن موافق لهم في الاعتقاد فمن اين وقع لكم الاطلاع عليها وهم يسترون ديانتهم ويستنبطون بعقائدهم قلت أما الإطلاع على ذلك فانما عثرنا عليه من جهة خلق كثير تدينوا بدينهم واستجابوا لدعوتهم ثم تنبهوا لضلالهم فرجعوا عن غوايتهم إلى الحق المبين فذكروا ما ألقوا اليهم من الأقاويل واما سبب انقياد الخلق اليهم في بعض أقطار الأرض فانهم لا يفشون هذا الأمر إلا إلى بعض المستجيبين لهم ويوصون الداعي ويقولون له إياك ان تسلك بالجميع مسلكا واحدا فليس كل من يحتمل قبول هذه المذاهب يحتمل الخلع والسلخ ولا كل من يحتمل الخلع يحتمل السلخ فليخاطب الداعي الناس على قدر عقولهم. فهذا هو السبب في تعلق هذه الحيل ورواجها.
فإن قيل هذا أيضا مع الكتمان ظاهر البطلان فكيف ينخدع بمثله عاقل قلنا لا ينخدع به إلا المائلون عن اعتدال الحال واستقامة الرأي فللعقلاء عوارض تعمى عليهم طرق الصواب وتقضي عليهم بالانخداع بلامع السراب وهي ثمانية أصناف.
الصنف الأول طائفة ضعفت عقولهم وقلت بصائرهم وسخفت في أمور الدين آراؤهم لما جبلوا عليه من البله والبلادة مثل السواد وأفجاج العرب والأكراد وجفاة الأعاصم وسفهاء الأحداث ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عددا وكيف يستبعد قبولهم لذلك ونحن نشاهد جماعة في بعض المدائن القريبة من البصرة يعبدون أناسا يزعمون أنهم ورثوا الربوبيه من آبائهم المعروفين بالشباسية وقد اعتقدت طائفة في علي رضي الله عنه انه إله السموات والارض رب العالمين وهم خلق كثير لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد فلا ينبغي أن يكثر التعجب من جهل الإنسان إذا استحوذ عليه الشيطان واستولى عليه الخذلان.
الصنف الثاني طائفة انقطعت الدولة عن أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس المستطيلين فهؤلاء موتورون قد استكن الحقد في صدورهم كالداء الدفين فإذا حركته تخاييل المبطلين اشتعلت نيرانه في صدورهم فأذعنوا لقبول كل محال تشوقا إلى درك ثأرهم وتلافي أمورهم.
الصنف الثالث طائفة لهم همم طامحة إلى العلياء متطلعة إلى التسلط والاستيلاء إلا انه ليس يساعدهم الزمان بل يقصر بهم عن الأتراب والأقران طوارق الحدثان فهؤلاء إذا وعدوا بنيل امانيهم وسول لهم الظفر بأعاديهم سارعوا إلى قبول ما يظنونه مفضيا إلى مآربهم وسالكا إلى أوطارهم ومطالبهم فلطالما قيل حبك الشيئ يعمي ويصم ويشترك في هذا كل من دهاه من طبقة الإسلام آمر يلم به وكان لا يتوصل إلى الانتصار ودرك الثأر إلا بالاستظهار بهؤلاء الاغبياء الأغمار فتتوفر دواعيه على قبول ما يرى الأمنية فيه.
الصنف الرابع طائفة جبلوا على حب التميز عن العامة والتخصص عنهم ترفعا عن مشابهتهم وتشرفا بالتحيز إلى فئة خاصة تزعم انها مطلعة على الحقائق وان كافة الخلق في جهالتهم كالحمر المستنفرة والبهائم المسيبة وهذا هو الداء العضال المستولي على الأذكياء فضلا عن الجهال الاغبياء وكل ذلك حب للنادر الغريب ونفرة عن الشائع المستفيض وهذه سجية لبعض الخلق على ما شهدت به التجربة وتدل عليه المشاهدة.
الصنف الخامس طائفة سلكوا طرق النظر ولم يستكملوا فيه رتبة الاستقلال وان كانوا قد ترقوا عن رتبة الجهال فهم أبدا متشوقون إلى التكاسل والتغافل وإظهار التفطن لدرك أمور تتخيل العامه بعدها وينفرون عنها لا سيما إذا نسب الشئ إلى مشهور بالفضل فيغلب على الطبع التشوق إلى التشبه به فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليدا لافلاطن وأرسططاليس وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل وداعيهم إلى ذلك التقليد وحب التشبه بالحكماء والتحيز إلى غمارهم والتحيز عمن يعتقد انه في الذكاء والفضل دونهم فهؤلاء يستجرون إلى هذه البدعة بإضافتها إلى من يحسن اعتقاد المستجيب فيه فيبادر إلى قبوله تشفعا بالتشبه بالذي ذكر انه من منتحليه.
الصنف السادس طائفة اتفق نشؤوهم بين الشيعة والروافض واعتقدوا التدين بسب الصحابة ورأوا هذه الفرقة تساعدهم عليها فمالت نفوسهم إلى المساعدة لهم والاستئناس بهم وانجرت معهم إلى ما وراء ذلك من خصائص مذهبهم.
الصنف السابع طائفة من ملحدة الفلاسفة والثنوية والمتحيرة في الدين اعتقدوا أن الشرائع نواميس مؤلفة وان المعجزات مخاريق مزخرفة فإذا رأوا هؤلاء يكرمون من ينتمي إليهم ويفيضون ذخائر الأموال عليهم انتدبوا لمساعدتهم طلبا لحطام الدنيا واستحقارا لامر العقبى وهذه الطائفة هم الذين لفقوا لهم الشبه وزينوا لهم بطريق التمويه الحجج وسووها على شروط الجدل وحدود المنطق من حيث الظاهر وغبوا مكامن التلبيس والمغالطة فيها تحت ألفاظ مجملة وعبارات كلية مبهمة قلما يهتدي الناظر الضعيف إلى فك تعقيدها وكشف الغطاء عن مكمن تدليسها على ما سنورد ما لفقوه وننبه على المسلك الذي سلكوه ونهجوه ونكشف عن فساده من عدة وجوه.
الصنف الثامن طائفة استولت عليهم الشهوات فاستدرجتهم متابعة اللذات واشتد عليهم وعيد الشرع وثقلت عليهم تكاليفه فليس يتهنأ عيشهم إذا قرفوا بالفسق والفجور وتوعدوا بسوء العاقبة في الدار الآخرة فإذا صادفوا من يفتح لهم الباب ويرفع عنهم الحجز والحجاب ويحسن لهم ما هم مستحسنون له بالطبع تسارعوا إلى التصديق بالرغبة والطوع وكل انسان مصدق لما يوافق هواه ويلائم غرضه ومناه فهؤلاء ومن يجري مجراهم هم الذين عدموا التوفيق فانخدعوا بهذه المخاريق وزاغوا عن سواء الطريق وحدود التحقيق.
الباب الرابع في نقل مذاهبهم جملة وتفصيلا
أما الجملة فهو أنه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق لما يعتريها من الشبهات ويتطرق إلى النظار من الاختلافات وإيجاب لطلب الحق بطريق التعليم والتعلم وحكم بان المعلم المعصوم هو المستبصر وانه مطلع من جهة الله على جميع أسرار الشرائع يهدي إلى الحق ويكشف عن المشكلات وان كل زمان فلا بد فيه من امام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من أمور الدين.
هذا مبدأ دعوتهم ثم انهم بالآخرة يظهرون ما يناقض الشرع وكأنه غاية مقصدهم لان سبيل دعوتهم ليس بمتعين في فن واحد بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منهم بالانقياد لهم والموالاة لامامهم فيوافقون اليهود والنصارى والمجوس على جملة معتقداتهم ويقرونهم عليها فهذه جملة المذاهب.
وأما تفصيله فيتعلق بالإلهيات والنبوات والإمامة والحشر والنشر. وهذه أربعة أطراف وأنا مقتصر في كل طرف على نبذة يسيرة من حكاية مذهبهم فإن النقل عنهم مختلف وأكثر ما حكي عنهم إذا عرض عليهم أنكروه وإذا روجع فيه الذين استجابوا لدعوتهم جحدوه والذي قدمناه في جملة مذهبهم يقتضي لا محالة ان يكون النقل عنهم مختلفا مضطربا فانهم لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد بل غرضهم الاستتباع والاحتيال فلذلك تختلف كلمتهم ويتفاوت نقل المذهب عنهم فان ما حكي عنهم في الخلع والسلخ لا يظهرونه إلا مع من بلغ الغاية القصوى بل ربما يخاطبون بالخلع من ينكرون معه السلخ فلنرجع إلى بيان أطراف المذهب.
الطرف الأول في معتقدهم في الإلهيات
وقد اتفقت أقاويل نقله المقالات من غير تردد انهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا ان أحدهما علة لوجود الثاني واسم العلة السابق واسم المعلول التالي وان السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه وقد يسمى الأول عقلا والثاني نفسا ويزعمون ان الأول هو التام بالفعل والثاني بالاضافة إليه ناقص لانه معلوله وربما لبسوا على العوام مستدلين بآيات من القرآن عليه كقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا} و {نحن قسمنا} وزعموا ان هذه إشارة إلى جمع لا يصدر عن واحد ولذلك قال {سبح اسم ربك الأعلى} إشارة إلى السابق من الالهين فانه الاعلى ولولا ان معه إلها آخر له العلو أيضا لما انتظم إطلاق الأعلى وربما قالوا الشرع سماهما باسم القلم واللوح والأول هو القلم فان القلم مفيد واللوح مستفيد متأثر والمفيد فوق المستفيد وربما قالوا اسم التالي قدر في لسان الشرع وهو الذي خلق الله به العالم حيث قال {إنا كل شيء خلقناه بقدر} ثم قالوا السابق لا يوصف بوجود ولا عدم فان العدم نفى والوجود سببه فلا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف وزعموا أن جميع الأسامي منتفية عنه وكأنهم يتطلعون في الجملة لنفي الصانع فانهم لو قالوا إنه معدوم لم يقبل منهم بل منعوا الناس من تسميته موجودا وهو عين النفي مع تعيير العبارة لكنهم تحذقوا فسموا هذا النفي تنزيها وسموا مناقضه تشبيها حتى تميل القلوب إلى قبوله ثم قالوا العالم قديم أي وجوده ليس مسبوقا بعدم زماني بل حدث من السابق التالي وهو أول مبدع وحدث من المبدع الأول النفس الكلية الفاشية جزئياتها في هذه الابدان المركبة وتولد من حركة النفس الحرارة ومن سكونها البرودة ثم تولد منهما الرطوبة واليبوسة ثم تولدت من هذه الكيفيات الاستقصات الأربع وهي النار والهواء والماء والأرض ثم إذا امتزجت على اعتدال ناقص حدثت منها المعادن فإن زاد قربها من الاعتدال وانهدم صرفية التضاد منها تولد منها النبات وان زاد تولد الحيوان فان ازداد قربا تولد الإنسان وهو منتهى الاعتدال.
فهذا ما حكي من مذهبهم إلى أمور اخر هي أفحش مما ذكرناه لم نر تسويد البياض بنقلها ولا تبيان وجه الرد عليها لمعنيين أحدهما أن المنخدعين بخداعهم وزورهم والمتدلين بحبل غرورهم في عصرنا هذا لم يسمعوا هذا منهم فينكرون جميع ذلك إذا حكي من مذهبهم ويحدثون في أنفسهم أن هؤلاء انما خالفوا لانه ليس عندهم حقيقة مذهبنا ولو عرفوها لوافقونا عليها فنرى ان نشتغل بالرد عليهم فيما اتفقت كلمتهم وهو إبطال الرأي والدعوة إلى التعلم من الإمام المعصوم فهذه عمدة معتقدهم وزبدة مخضهم فلنصرف العناية إليه وما عداه فمنسقم إلى هذيان ظاهر البطلان وإلى كفر مسترق من الثنوية والمجوس في القول بالالهين مع تبديل عبارة النور والظلمة ب السابق والتالي إلى ضلال منتزع من كلام الفلاسفة في قولهم ان المبدأ الأول علة لوجود العقل على سبيل اللزوم عنه لا على سبيل القصد والاختيار وانه حصل من ذاته بغير واسطة سواه نعم يثبتون موجودات قديمة يلزم بعضها عن بعض ويسمونها عقولا ويحيلون وجود كل فلك على عقل من تلك العقول في خبط لهم طويل قد استقصينا وجه الرد عليهم في ذك في فن الكلام ولسنا نشتغل في هذا الكتاب إلا يما يخص هذه الفرقة وهو إبطال الرأي وإثبات التعليم.
الطرف الثاني في بيان معتقدهم في النبوات
والمنقول عنهم قريب من مذهب الفلاسفة وهو أن النهي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحا بعينه أو مدرجا تحت مثال يناسبه مناسبة ما فتفتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة فلذلك يدرك النبي الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجرام السفلية وزعموا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه ورمز إليه لا انه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى سفل واما القرآن فهو عندهم تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل الذي هو المراد باسم جبريل ويسمى كلام الله تعالى مجازا فانه مركب من جهته وانما الفائض عليه من الله بواسطة جبريل بسيط لا تركيب فيه وهو باطن لا ظهور له وكلام النبي وعبارته عنه ظاهر لا بطون له وزعموا ان هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل في أول حلولها كما لا تستكمل النطفة الحالة في الرحم إلا بعد تسعة أشهر فكذلك هذه القوة كمالها في أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الاساس الصامت وهكذا تنتقل إلى أشخاص بعضهم بعد بعض فيكمل في السابع كما سنحكي معنى قولهم في الناطق والاساس والصامت.
وهذه المذاهب مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير ولسنا نخوض في الرد عليهم فيه فإن بعضهم يمكن أن يتأول على مجه لاننكره والقدر الذي ننكره قد استقصينا وجه الرد فيه على الفلاسفة ولسنا في هذا الكتاب نقصد إلا الرد على نابغة الزمان في خصوص مذهبهم الذي انفردوا به عن غيرهم وهو إيجاب التعليم وإبطال الرأي.
الطرف الثالث بيان معتقدهم في الإمامة
وقد اتفقوا على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات واتفقوا على أنه المتصدي لهذا الأمر وان ذلك جار في نسبهم لا ينقطع أبد الدهر ولا يجوز أن ينقطع إذ يكون فيه إهمال الحق وتغطيته على الخلق وإبطال قوله عليه السلام كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي وقوله ألم أترك فيكم القرآن وعترتي واتفقوا على أن الإمام يساوي النبي في العصمة والاطلاع على حقائق الحق في كل الأمور إلا انه لا ينزل إليه الوحي وانما يتلقى ذلك من النبي فانه خليفته وبإزاء منزلته ولا يتصور في زمان واحد امامان كما لايتصور نبيان تختلف شريعتهما نعم يستظهر الإمام بالحجج والمأذونين والاجنحة والحجج هم الدعاة فقالوا لا بد للإمام في كل وقت من اثنى عشر حجة ينتدبون في الأقطار متفرقين في الأمصار وليلازم أربعة من جملة الاثنى عشر حضرته فلا يفارقونه ولا بد لكل حجة من معاونين له على أمره فانه لا ينفرد بالدعوة بنفسه واسم المعاون المأذون عندهم ولا بد للدعاة من رسل إلى الإمام يرفعون إليه الأحوال ويصدرون عنه اليهم واسم الرسول الجناح. ولا بد للداعي من أن يكون بالغا في العلم والمأذون وإن كان دونه فلا بأس بعد أن يكون عالما على الجملة وكذلك الجناح.
ثم انهم قالوا كل نبي لشريعته مدة فإذا انصرمت مدته بعث الله نبيا آخر ينسخ شريعته ومدة شريعة كل نبي سبعة أعمار وهو سبعة قرون فأولهم هو النبي الناطق ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله. ومعنى الصامت ان يكون قائما على ما أسسه غيره ثم أنه يقوم بعد وفاته ستة أئمة إمام بعد إمام فإذا انقضت أعمارهم ابتعث الله نبيا أخر ينسخ الشريعة المتقدمة وزعموا أن أمر آدم جرى على هذا المثال وهو أول نبي ابتعثه الله في فتح باب الجسمانيات وحسم دور الروحانيات. ولكل نبي سوس والسوس هو الباب إلى علم النبي في حياته والوصي بعد وفاته والإمام لمن هو في زمانه كما قال عليه السلام أنا مدينة العلم وعلي بابها وزعموا أن آدم كان سوسة شيث وهو الثاني ويسمى من بعده متما ولاحقا وإماما وإنما كان استتمام دور آدم سبعة لان استتمام دور العالم العلوي بسبعة من النجوم ولما استتم دور آدم ابتعث الله نوحا ينسخ شريعته وكان سوسه سام فلما استتم دوره بمضي ستة سواه وسبعة معه ابتعث الله إبراهيم ينسخ شريعته وكان سوسه اسحق ومنهم من يقول لا بل أسماعيل فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله موسى ينسخ شريعته وكان سوسه هارون فمات هارون في حياة موسى فصار سوسه يوشع بن نون فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله عيسى ينسخ شريعته وسوسه شمعون ولما استتم دوره بالسابع ابتعث الله محمدا ﷺ وسوسه علي عليه السلام وقد استتم دوره بجعفر بن محمد فإن الثاني من الأئمة الحسن بن علي والثالث الحسين بن علي والرابع علي بن الحسين والخامس محمد بن علي والسادس جعفر بن محمد عليه السلام وقد استتموا سبعة معه وصارت شريعته ناسخة وهكذا يدور الأمر أبد الدهر.
هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة أهملنا ذكرها ضنة بالبياض أن يسود بها.
الطرف الرابع بيان مذهبهم في القيامة والمعاد
وقد اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة وان هذا النظام المشاهد في الدنيا من تعاقب الليل والنهار وحصول الإنسان من نطفة والنطفة من انسان وتولد النبات وتولد الحيوانات لا يتصرم أبدا الدهر وان السموات والأرض لا يتصور انعدام اجسامهما وأولوا القيامة وقالوا إنها رمز إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر وربما قال بعضهم ان للفلك أدوارا كلية تتبدل أحوال العالم تبدلا كليا بطوفان عام أو سبب من الأسباب فمعنى القيامة انقضاء دورنا الذي نحن فيه واما المعاد فانكروا ما ورد به الأنبياء ولم يثبتوا الحشر والنشر للاجساد ولا الجنة والنار ولكن قالوا معنى المعاد عود كل شئ إلى أصله والإنسان متركب من العالم الروحاني الجسماني اما الجسماني منه وهو جسده فمتركب من الاخلاط الأربعة الصفراء والسوداء والبلغم والدم فينحل الجسد ويعود كل خلط إلى الطبيعة العالية أما الصفراء فتصير نارا وتصير السوداء ترابا ويصير الدم هواء ويصير البلغم ماء وذلك هو معاد الجسد وأما الروحاني وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان فانها ان صفيت بالمواظبة على العبادات وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات وغذيت بغذاء العلوم والمعارف المتلقاة من الأئمة الهداة اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحاني الذي منه انفصالها وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي ولذلك سمي رجوعا فقيل {ارجعي إلى ربك راضية مرضية} وهي الجنة وإليه وقع الرمز بقصة آدم وكونه في الجنة ثم انفصاله عنها ونزوله إلى العالم السفلاني ثم عوده اليها بالآخرة وزعموا ان كمال النفس بموتها إذ به خلاصها من ضيق الجسد والعالم الجسماني كما أن النطفة في الخلاص من ظلمات الرحم والخروج إلى فضاء العالم والإنسان كالنطفة والعالم كالرحم والمعرفة كالغذاء فإذا نفذت فيه صارت بالحقيقة كاملة وتخلصت فإذا استعدت لفيض العلوم الروحانية باكتساب العلوم من الأئمة وسلوك طرقها المفيدة بإرشادهم استكملت عند مفارقة الجسد وظهر لها ما لم يظهر ولذلك قال عليه السلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وكلما ازدادت النفس عن عالم الحسيات بعدا ازدادت للعلوم الروحانية استعدادا وكذلك إذا ركدت الحواس بالنوم اطلعت على عالم الغيب واستشعرت ما سيظهر في المستقبل إما بعينه فيغنى عن المعبر أو بمثال فيحتاج إلى التعبير فالنوم اخو الموت وفيه يظهر علم ما لم يكن في اليقظة فكذا الموت تنكشف أمور لم تخطر على قلب بشر في الحياة وهذا للنفوس التي قدستها الرياضة العملية والعلمية فأما النفوس المنكوسة المغمورة في عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فانها تبقى أبد الدهر في النار على معنى انها تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان فلا تزال تتعرض فيها للألم والاسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر ولذلك قال تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} فهذا مذهبهم في المعاد وهو بعينه مذهب الفلاسفة وانما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة فكل واحد نصر مذهبهم طمعا في أموالهم وخلعهم واستظهارا باتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة عن نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة ثم ما اوهموه وهذوا به لا يفهم في نفسه ولا يؤثر في ترغيب وترهيب وسنشير إلى كلام وجيز في الرد عليهم في هذا الفن وأخباره في آخر الفصل.
الطرف الخامس في اعتقادهم في التكاليف الشرعية
والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع إلا انهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب اليهم وانما الذي يصح من معتقدهم فيه انهم يقولون لا بد من الانقياد للشرع في تكاليفه على التفصيل الذي يفصله الإمام من غير متابعة الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما وان ذلك واجب على الخلق والمستجيبين إلى ان ينالوا رتبة الكمال في العلوم فإذا أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور واطلعوا على بواطن هذه الظواهر انحلت عنهم هذه القيود وانحطت عنهم هذه التكاليف العملية فان المقصود من أعمال الجوارج تنبيه القلب لينهض الطب العلم فإذا ناله استعد للسعادة القصوى فيسقط عنه تكليف الجوارح وانما تكليف الجوارح في حق من يجري بجهله مجرى الحمر التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة وأما الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتهم ارفع من ذلك وهذا فن من الإغواء شديد على الأذكياء وغرضهم هدم قوانين الشرع ولكن يخادعون كل ضعيف بطريق يغويه ويليق به وهذا من الإضلال البارد وهو في حكم ضرب المثال كقول القائل إن الاحتماء عن الاطعمه المضرة انما يجب على من فسد مزاجه فأما من اكتسب اعتدال المزاح فليواظب على أكل ما شاء أي وقت شاء فلا يلبث المصغي الي هذا الضلال ان يمعن في المطعومات المضرة إلي أن تتداعى به إلى الهلاك.
فإن قيل قد نقلتم مذاهبهم وما ذكرتم وجه الإبطال فما السبب فيه قلنا إن ما نقلناه عنهم ينقسم إلى أمور يمكن تنزيلها على وجه لا ننكره والى ما يتعين من الشرع إنكاره والمنكر هو مذهب الثنوية والفلاسفة والرد عليهم فيه يطول فليس ذلك من خصائص مذهب هؤلاء حتى نتشاغل به وانما نرد عليهم في خصوص مذهبهم من إبطال الرأي وإثبات التعليم من الإمام المعصوم ولكنا مع ذلك نذكر مسلكا واحدا هو على التحقيق قاصم الظهر نعني في إبطال مذهبهم في جميع ما سنحكي عنهم وما حكيناه وهو أنا نقول لهم في جميع دعاويهم التي تميزوا بها عنا كإنكار القيامة وقدم العالم وإنكار بعث الأجساد وإنكار الجنة والنار على ما دل عليه القرآن مع غاية الشرح في وصفها من أين عرفتم ما ذكرتموه أعن ضرورة أو عن نظر أو عن نقل عن الإمام المعصوم وسماع فان عرفتموه ضرورة فكيف خالفكم فيه ذوو العقول السليمة لان معنى كون الشئ ضروريا مستغنيا عن التأمل اشتراك كافة العقلاء في دركه ولو ساغ أن يهذي الإنسان بدعوى الضرورة في كل ما يهواه لجاز لخصومهم دعوى الضرورة في نقيض ما ادعوه وعند ذلك لا يجدون مخلصا بحال من الأحوال. وان زعموا أنا عرفنا ذلك بالنظر فهو باطل من وجهين أحدهما أن النظر عندهم باطل فانه تصرف بالعقل لا بالتعليم وقضايا العقول متعارضه وهي غير موثوق بها ولذلك أبطلوا الرأي بالكلية ولم نصنف هذا الكتاب قصدا لإبطال هذا المذهب فكيف يمكن ذلك منهم الثاني أن يقال للفلاسفة والمعترفين بمسالك النظر بم عرفتم عجز الصانع عن خلق الجنة والنار وبعث الأجساد كما ورد به الشرع وهل معكم إلا استبعاد محض لو عرض مثله على من لم يشاهد النشأة الأولى لاستبعده وعرض له ذلك الإنكار فالرد عليهم بالحجة المنطوية تحت قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} ومن تأمل عجائب الصنع في خلق الآدمي من نطفة قذرة لم يستبعد من قدرة الله شيئا وعرف أن الإعادة اهون من الابتداء.
فإن قيل الإعادة غير معقولة والابتداء معقول إذ ما عدم كيف يعود قلنا لنفهم الابتداء حتى نبني عليه الإعادة ورأى المتكلمين فيه أن الابتداء يخلق الحياة في جسم من الأجسام مع ان الحياة عرض يتجدد ساعة فساعة بخلق الله تعالى فلا يستحيل على أصلهم الإمساك عن خلق الحياه مدة في الجسم ثم يعود إلى خلق الحياة كما لا يستحيل خلق الحركة بعد السكون والسواد بعد البياض ورأى الفلاسفة أن قوام الحياة استعداد جسم مخصوص بنوع من الاعتدال إلى الانفعال عن النفس التي هي جوهر قائم بنفسه غير متحيز ولا متجسم ولا هو منطبع في جسم لا علاقة بينه وبين الجسم إلا بالفعل فيه ولا علاقة بين الجسم وبينه إلا بالانفعال عنه ومعنى الموت انقطاع هذه العلاقة الفعلية ببطلان استعداد الجسم فانه لا يستعد للاننفعال إلا إذا كان على مزاج مخصوص كما لا يستعد الحديد لانطباع الصورة المحسوسة فيه أو انعكاس الاشعة عنه إلا إذا كان على هيئة مخصوصة فإذا بطلت تلك الهيئة لم ينفعل الحديد عن الصورة المحاذية له ولم ينطبع فيه فإذا كان هذا مذهبهم فالقادر على إحداث العلاقة بين نفس لا تتجسم ولا تختص بمكان ولا توصف بانها متصلة بالجسم ولا بأنها منفصلة عنه وبين الجسم الذي لا تناسبه بحقيقتها ولا تتصل به اتصالا محسوسا كيف يعجز عن إعادة تلك العلاقة والعجب أن أكثرهم جوزوا إثبات تلك العلاقة مع جسد آخر على طريق التناسخ فلم لا يجوز عودها إلى جسدها فان الجسد الذي فسد مزاجه لابعد في أن يصلح مزاجه وتعاد تلك العلاقة ايه فيكون هو المراد بالإعادة ويضاهي التيقظ بعد المنام فانه يعيد حركة الحواس وتذكر الأمور السالفة.
فان قيل المزاج إذا فسد لا يعود معتدلا إلا بان تنحل اجزاء الجسم إلى العناصر ثم تتركب ثانيا ثم يصير حيوانا ثم يصير نطفة فهذا الإعتدال للنطفة على الخصوص قلنا ومن أين عرفتم انه ليس في مقدور الله جبر الخلل الواقع بطريق سوى هذا الطريق ومن أين عرفتم أن هذا الذي ذكرتموه طريق فهل لكم مستند سوى مشاهدة الأحوال وهل لكم في إبطال غيره مستند سوى عدم المشاهدة ولو لم تشاهدوا خلق الإنسان من نطفة لنفرت عقولكم عن التصديق به ففي الأسباب المغيره لأحوال الأجسام عجائب يستنكرها من لا يشاهدها فمن منكر ينكر الخواص وآخر ينكر السحر وآخر ينكر المعجزة وآخر ينكر الأخبار عن الغيب وكل يعول في إقراره على قدر مشاهدته لا على طريق معقول في إثبات الاستحالة ثم من لم يشاهده ويستيقنه ينبئ أن نفرة طبعه عن التصديق كان لعدم المشاهدة وفي مقدورات الله عجائب لم يطلع عليها بشر فلم يستحل ان يكون لإعادة تلك الاجسام وإعادة مزاجها سبب عند الله ينفرد بمعرفته وإذا اعاده عادت النفس متصرفه فيه كما كان بزعمهم في الحياة والعجب ممن يدعي الحذق في المعقولات ثم يشاهد ما في العالم من العجائب والآيات ثم تضيق حوصلته عن قبول ذلك في قدرة الله وإذا نسب ما لم يشاهده إلى ما شاهده لم ير أعجب منه نعم لو قال القائل هذا أمر لا يدل العقل على إحالته ولكن لا يدل أيضا على جوازه بل يتوقف عن الحكم فيه ويجوز ان يكون ثم محيل لا يطلع عليه أو مجوز لا يطلع عليه فهذا أقرب من الأول ويلزم بحكمه تصديق النبي ﷺ إذا أخبر عنه فانه أخبر عما لا يستحيل في العقل وجوده وعلى الجملة فقد اشتمل على أطوار الخلق ودرجاته قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله {تبعثون} فأطبق الخلق على التصديق بجملة المقدمات إلا البعث لانهم شاهدوا جميع ذلك سوى البعث ولو لم يشاهدوا قط موتا لانكروا إمكان الموت ولو لم يشاهدوا خلق آدمي من نطفة لانكروا إمكانه فالبعث مع ما قبله في ميزان العقل على وتيرة واحدة فلنصدق الأنبياء فيما جاءوا به فإنه لا يمتنع وهذا كله كلام مع فلاسفة النظار اما الباطنية المنكرون للنظر فلا يمكنهم التمسك بالنظر نعم لو قال الباطني أخبرني الإمام المعصوم ان البعث مستحيل فصدقته قيل له وما الذي دعاك إلى تصديق الإمام المعصوم بزعمك ولا معجزة له وصرفك عن تصديق محمد بن عبد الله مع المعجزات والقرآن من أوله إلى آخره دال على جواز ذلك ووقوعه فهل لك من مانع سوى ان عصمته علمت بمعجزته وعصمة من يدعيه علمت بهذيانك وشهوتك فان قال ان ما في القرآن ظواهر هي رموز إلى بواطن لم يفهموها وقد فهمها الإمام المعصوم فتعلمنا منه قلنا تعلمتم منه بمشاهدة ذلك في قلبه بالعين أو سماعا من لفظه ولا يمكن دعوى المشاهدة ولا بد من الاستناد إلى سماع لفظه قلنا وما يؤمنك أن لفظه له باطن لم تطلع عليه فلا تثق بما فهمته من ظاهر لفظه فإن زعمت أنه صرح معك وقال ما ذكرته هو ظاهر لا رمز فيهوالمراد ظاهره قلنا وبم عرفت أن قوله هذا وهو أنه ظاهر لا رمز فيه أيضا ظاهر وفيه رمز إلى ما لم تطلع عليه فلايزال يصرح بلفظه ونحن نقول لسنا ممن يغتر بالظواهر فلعل تحته رمزا وان أنكر الباطن فنقول تحت إنكاره رمز وان حلف بالطلاق الثلاث على أنه ما قصد إلا الظاهر فنقول في طلاقه رمز وانما هو مظهر شيئا ومضمر غيره فان قلت فذلك يؤدي إلى حسم باب التفهيم قلنا فأنتم حسمتم باب التفهيم على الرسول فان ثلثي القرآن في وصف الجنة والنار والحشر والنشر مؤكد بالقسم والايمان وانتم تقولون لعل تحت ذلك رمزا وانتم تقولون وأي فرق بين ان يطول في تفهم الأمور التطويل الذي عرف في القرآن والأخبار وبين أن تقول ما أريد إلا الظاهر فإن جاز عليه ان يفهم الظاهر ويكون مراده غير ما علم قطعا انه ما وصل إلى افهام الخلق ويكون كاذبا في جميع ما قال لاجل مصلحة وسر فيه جاز انيكون امامكم المعصوم بزعمكم يضمر معكم خلاف ما يظهره وضد ما يفهمه ونقيض ما يتيقن انه الواصل إلى افهامكم ويؤكد ذلك بالايمان المغلظة لمصلحة له وسر فيه وهذا لا جواب عنه أبد الدهر وعند هذا ينبغي أن يعرف الإنسان ان رتبة هذه الفرقة أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال إذ لا نجد فرقة ينقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرموز وكل ما يتصور ان ينطلق به لسانهم اما نظر أو نقل اما النظر فقد ابطلوه وأما اللفظ فقد جوز ان يراد باللفظ غير موضوعه فلا يبقى لهم معتصم فإن قيل فهذا ينقلب عليكم فأنتم تجوزون أيضا تأويل الظواهر كما اولتم آية الاستواء وخبر النزول وغيرهما قلنا ما ابعد هذا القلب فإن لنا معيارا في التأويل وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك بشرط ان يكون اللفظ مناسبا له بطريق التجوز والاستعارة فقد دل الدليل على بطلان الاستواء والنزول فإن ذلك من صفات الحوادث فحمل على الاستيلاء وهو مناسب للغة واما الحشر والنشر والجنة والنار فليس في العقل دليل على إبطاله ولا مناسبة بين الألفاظ الواردة فيه وبين المعنى الذي أولوه عليه حتى يقال انه المراد بل التأويل في تكذيب محض فأي مناسبة بين قوله {فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة} وقوله {في سدر مخضود وطلح منضود} إلى قوله {لا مقطوعة} وبين ما اعتقدوه من اتصال الجواهر الروحانية بالأمور الروحانية العقلية التي لا مدخل فيها للمحسوسات فإن جاز أن يكذب صاحب المعجزة بهذه التأويلات التي لم تخطر قط ببال من سمعها فلم لا يجوز تكذيب معصومكم الذي لا معجزة له بتأويله على أمور ليس تخطر ببالهم لمصلحة أو لمسيس حاجة فإن غاية لفظه التصريح والقسم وهذه الآلفاظ في القرآن صريحة ومؤيدة بالقسم وزعموا ان ذلك ذكر لمصلحة والمراد غير ما سبق إلى الأفهام منها وهذا لا مخلص عنه.
الباب الخامس في إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم بالأمور العددية
وفيه فصلان.
الفصل الأول في تأويلاتهم للظواهر
والقول الوجيز فيه انهم لما عجزوا عن صرف الخلق عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق زخرفوها واستفادوا بما انتزعوه من نفوسهم من مقتضى الألفاظ إبطال معاني اشرع وبما زخرفوه من التأويلات تنفيذ انقيادهم للمبايعة والموالاة وانهم لو صرحوا بالنفي المحض والتكذيب المجرد لم يحظوا بموالاة الموالين وكانوا أول المقصودين المقتولين.
ونحن نحكي من تأويلاتهم نبدة لنستدل بها على مخازيهم فقد قالوا كل ما ورد من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن اما الشرعيات فمعنى الجنابة عندهم مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة استحقاقه ومعنى الغسل تجديد العهد على فعل ذلك ومجامعة البهيمة معناها عندهم معالجة من لا عهد عليه ولم يؤد شيئا من صدقة النجوى وهي مائة وتسعة عشر درهما عندهم فلذلك اوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به والا فالبهيمة متى وجب القتل عليها والزنا هو القاء نطفة العلم الباطن في نفس من لم يسبق معه عقد العهد الاحتلام هو أن يسبق لسانه إلى إفشاء السر في غير محله فعليه الغسل أي تجديد المعاهدة الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى مبايعة الإمام الصيام هو الامساك عن كشف السر الكعبة هي النبي والباب علي الصفا هو النبي والمروة علي والميقات هو الاساس والتلبية إجابة الداعي والطواف بالبيت سبعا هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة والصلوات الخمس أدلة على الاصول الأربعة وعلى الإمام فالفجر دليل السابق والظهر دليل التالي والعصر دليل للأساس والمغرب دليل الناطق والعشاء دليل الإمام. وكذلك زعموا أن المحرمات عبارة عن ذوي الشر من الرجال وقد تعبدنا باجتنابهم كما أن العبادات عبارة عن الاخيار الأبرار الذين أمرنا باتباعهم.
فأما المعاد فزعم بعضهم أن النار والاغلال عبارة عن الأوامر التي هي التكاليف فانها موظفة على الجهال بعلم الباطن فما داموا مستمرين عليها فهم معذبون فإذا نالوا علم الباطن وضعت عنهم أغلال التكاليف وسعدوا بالخلاص عنها واخذوا يؤولون كل لفظ ورد في القرآن والسنة فقالوا أنهار من لبن أي معادن الدين العلم الباطن يرتضع بها أهلها ويتغذى بها تغذيا تدوم بها حياته اللطيفة فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم كما ان حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدي الام وأنهار من خمر هو العلم الظاهر وأنهار من عسل مصفى هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة.
أما المعجزات فقد أولوا جميعها وقالوا الطوفان معناه طوفان العلم اغرق به المتمسكون بالسنة والسفينة حرزه الذي تحصن به من استجاب لدعوته ونار إبراهيم عبارة عن غضب نمرود لا عن النار الحقيقية وذبح اسحق معناه اخذ العهد عليه عصا موسى حجته التي تلقفت ما كانوا يأفكون من الشبه لا الخشب انفلاق البحر افتراق علم موسى فيهم على أقسام والبحر هو العالم والغمام الذي أظلهم معناه الإمام الذي نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم الجراد والقمل والضفادع هي سؤالات موسى وإلزاماته التي سلطت عليهم والمن والسلوى علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى تسبيح الجبال معناه تسبيح رجال شداد في الدين راسخين في اليقين. الجن الذي ملكهم سليمان بن داود باطنية ذلك الزمان والشياطين هم الظاهرية الذي كلفوا بالأعمال الشاقة عيسى له أب من حيث الظاهر وإنما أراد بالأب الإمام إذ لم يكن له إمام بل استفاد العلم من الله بغير واسطة وزعموا لعنهم الله أن أباه يوسف النجار كلامه في المهد اطلاعه في مهد القالب قبل التخلص منه على ما يطلع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب إحياء الموتى من عيسى معناه الاحياء بحياة العلم عن موت الجهل الباطن وابراؤه الاعمى معناه عن عمي الضلال وبرص الكفر ببصيرة الحق المبين ابليس وآدم عبارة عن أبي بكر وعلي إذ أمر ابوبكر بالسجود لعلي والطاعة له فأبى واستكبر الدجال زعموا انه أبو بكر وكان اعور إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر.
هذا من هذيانهم في التأويلات حكيناها ليضحك منها ونعوذ بالله من صرعة الغافل وكبوة الجاهل.
ولسنا نسلك في الرد عليهم إلا بمسالك ثلاثة إبطال ومعارضة وتحقيق.
أما الإبطال
فهو أن يقال بم عرفتم أن المراد من هذه الألفاظ ما ذكرتم فإن اخذتموه من نظر العقل فهو عندكم باطل وان سمعتموه من لفظ الإمام المعصوم فلفظه ليس بأشد تصريحا من هذه الألفاظ التي أولتموها فلعل مراده أمر آخر اشد بطونا من الباطن الذي ذكرتموه ولكنه جاوز الظاهر بدرجة فزعم ان المراد بالجبال الرجال فما المراد بالرجال لعل المراد به أمر آخر والمراد بالشياطين أهل الظاهر فما أهل الظاهر والمراد باللبن العلم فما معنى العلم فإن قلت العلم والرجال أهل الظاهر صريحة في مقتضياتها بوضع اللغة ان كنت ناظرا بالعين العوراء إلى أحد الجانبين فأنت المراد إذا بالدجال فإنه أعور لانك أبصرت باحدى العينين فإن الرجال ظاهر وعميت بالعين الاخرى الناظرة إلى الجبال وانها أيضا ظاهر فإن قلت يمكن ان يكنى بالجبال عن الرجال قلنا ويمكن ان يكنى بالرجال عن غيرهم كما عبر الشاعر بالرجلين اللذين أحدهما خياط والآخر نساج عن أمور فلكية وأسباب علوية فقال:
رجلان خياط وآخر حائك ** متقابلان على السماك الأعزل
لا زال ينسج ذاك خرقة مدبر ** ويخيط صاحبه ثياب المقبل
وهكذا في كل فن وإذا نزل تسبيح الجبال على تسبيح الرجال فلينزل معنى الرجال في قوله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} على الجبال فإن المناسبة قائمة من الجانبين ثم إذا نزل الجبال على الرجال ونزل الرجال أيضا على غيره أمكن تنزيل ذلك الباطن الثالث على رابع وتسلسل إلى حد يبطل التفاهم والتفهيم ولا يمكن التحكم بأن الحائز الرتبة الثانية دون الثالثة أو الثالثة دون الرابعة.
المسلك الثاني معارضة الفاسد بالفاسد
وهو أن يتناول جميع الأخبار على نقيض مذهبهم مثلا يقال قوله لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة أى لا يدخل العقل دماغا فيه التصديق بالمعصوم وقوله إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أى إذا نكح الباطني بنت أحدكم فليغسلها عن درن الصحبة بماء العلم وصفاء العمل بعد أن يعفرها بتراب الإذلال أو يقول قائل النكاح لا ينعقد بغير شهود وولى وأما قوله كل نكاح لا يحضره أربعة فهو سفاح معناه أن كل اعتقاد لم يشهد له الحلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فهو باطل وقوله لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل أي لا وقاع إلا بذكر وأنثيين إلى غير ذلك من الترهات والمقصود من ذكر هذا القدر معارضة الفاسد بالفاسد وتعريف الطريق في فتح هذا الباب حتى إذا اهتديت إليه لم تعجز عن تنزيل كل لفظة من كتاب أو سنة على نقيض معتقدهم فإن زعموا أنكم أنزلتم الصورة على المعصوم في قوله لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة فأي مناسبة بينهما قلت وأنتم نزلتم الثعبان على البرهان والأب في حق عيسى على الإمام واللبن على العلم في أنهار اللبن في الجنة والجن على الباطنية والشياطين على الظاهرية والجبال على الرجال فما المناسبة فإن قلت البرهان يقضم الشبه كما يقضم الثعبان غيره والإمام يفيد الوجود العلمي كما يفيد الأب الوجود الشخصي واللبن يغذي الشخص كما يغذي العلم الروح والجن باطن كالباطنيه فيقال لهم فإذا اكتفيتم بهذا القدر من المشاركة فلم يخلق الله شيئين إلا وبينهما مشاركة في وصف ما فإنا نزلنا الصورة على الإمام لان الصورة مثال لا روح فيها كما أن الإمام عندكم معصوم ولا معجزة له والدماغ مسكن العقل كما ان البيت مسكن العاقل والملك شئ روحاني كما أن العقل كذلك فثبت أن المراد بقوله لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة معناه لا يدخل العقل دماغا فيه اعتقادا عصمة الإمام فإذا عرفت هذا فخذ كل لفظ ذكروه وخذ ما تريده واطلب منهما المشاركة بوجه ما وتأوله عليه فيكون دليلا بموجب قولهم كما عرفتك في المناسبة بين الملك والعقل والدماغ والبيت والصورة والإمام وإذا انفتح لك الباب اطلعت على وجه حيلهم في التلبيس بنزع موجبات الألفاظ وتقدير الهوسات بدلا عنها للتوصل إلى إبطال الشرع وهذا القدر كاف في إبطال تأويلهم.
المسلك الثالث وهو التحقيق
أن تقول هذه البواطن والتأويلات التي ذكرتموها لو سامحناكم أنها صحيحة فما حكمها في الشرع أيجب إخفاؤها أم يجب إفشاؤها فإن قلتم يجب إفشاؤها إلى كل أحد قلنا فلم كتمها محمد ﷺ فلم يذكر شيئا من ذلك للصحابة ولعامة الخلق حتى درج ذلك العصر ولم يكن لأحد من هذا الجنس خبر وكيف استجاز كتمان دين الله وقد قال تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} تنبها على أن الدين لا يحل كتمانه وإن زعموا أنه يجب إخفاؤه فنقول ما أوجب الرسول ﷺ إخفاؤهمن سر الدين كيف حل لكم إفشاؤه والجناية في السر بالإفشاء ممن اطلع عليه من أعظم الجنايات فلولا أن صاحب الشرع عرف سرا عظيما ومصلحة كلية في إخفاء هذه الأسرار لما أخفاها ولما كرر هذه الظواهر على أسماع الخلق ولما تكررت في كلمات القرآن صفة الجنة والنار بألفاظ صريحة مع علمه بأن الناس يفهمون منه خلاف الباطن الذي هو حق ويعتقدون هذه الظواهر التي لا حقيقة لها فإن نسبتموه إلى الجهل بما فهمه الخلق منه فهو نسبة إلى الجهل بمعنى الكلام إذ كان النبي ﷺ يعلم قطعا أن الخلق ليس يفهمون من قوله وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة إلا المفهوم منه في اللغة فكذا سائر الألفاظ ثم مع علمه بذلك كان يؤكده عليهم بالتكرير والقسم ولم يفش إليهم الباطن الذي ذكرتموه لعلمه بأنه سر الله المكتوم فلم أفشيتم هذا السر وخرقتم هذا الحجاب وهل هذا إلا خروج عن الدين ومخالفة لصاحب الشرع وهدم لجميع ما أسسه إن سلم لكم جدلا أن ما ذكرتموه من الباطن حق عند الله وهذا لا مخرج لهم عنه فإن قيل هذا سر لا يجوز إفشاؤه إلى عوام الخلق فلهذا لم يفشه رسول الله ﷺ ولكن حق النبي أن يفشيه إلى سوسه الذي هو وصية وخليفته من بعده وقد أفشاه إلى علي دون غيره قلنا وعلي هل أفشاه إلى غير سوسه وخليفته أم لا فإن لم يفشه إلا إلى سوسه وكذا سوس سوسه وخليفة خليفته إلى الآن فكيف انتهى إلى هؤلاء الجهال من العوام حتى تناطقوا به وشحنت التصانيف بحكايته وتداولته الألسنة فلا بد أن يقال إن واحدا من الخلفاء عصى وأفشى السر إلى غير أهله فانتشر وعندهم أنهم معصومون لا يتصور عليهم العصيان فإن قيل السوس لا يذكره إلا مع من تعاهده عليه قلنا وما الذي منع الرسول من أن يعاهد ويذكره إن كان يجوز إفشاؤه مع العهد فإن قيل لعله عاهد وذكر ولكن لم ينقل لأجل العهد الذي أخذ ممن أفشى إليه قلنا ولم انتشر ذلك فيكم وأئمتكم لا يظهرون ذلك إلا مع من أخذ العهد عليه وما الذي عصم عهد أولئك دون عهد هؤلاء ثم يقال إذا جاز إفشاء هذا السر بالعهد فالعهد يتصور نقضه فهل يتصور أن يفشيه إلى من يعلم الإمام المعصوم أنه لا ينقضه أو يكفى أن يظنه بفراسته واجتهاده واستدلاله بالأمارات فإن قلتم لا يجوز إلا إلى من علم الإمام المعصوم أنه لا ينقضه بتعريف من جهة الله فكيف انتشرت هذه الأسرار إلى كافة الخلق ولم تنتشر إلا ممن سمع فإما ان يكون المبلغ ناقصا للعهد أو لم يعاهدأصلاوفي أحدهما نسبة المعصوم إلى الجهل وفي الاخر نسبته إلى المعصية ولا سبيل إلى واحد منهما عندهم وان زعمتم أنه يحل الإفشاء بالعهد عند شهادة الفراسة في المأخوذ عليه عهده انه لا ينقصه استدلالا بالأمارات ففي هذا نقض اصل مذهبهم لانهم زعموا انه لا يجوز اتباع أدلة العقل ونظره لان العقلاء مختلفون في النظر ففيه خطر الخظأ فكيف حكموا بالفراسة والامارة التي الخطأ أغلب عليها من الصواب وفي ذلك إفشاء سر الدين وهو أعظم الأشياء خطرا وقد منعوا التمسك بالظن والاجتهاد في الفقهيات التي هي حكم بين الخلق على سبيل التوسط في الخصومات ثم ردوا افشاء سر الدين إلى الخيالات والفراسات وهذا مسلك متين يتفطن له الذكي ويتبجح به المشتغل بعلوم الشرع إذ يتيقن قطعا ان القائل قائلان قائل يقول لا باطن لهذه الظواهر ولا تأويل لها فالتأويل باطل قطعا وقائل ينقدح له ان ذلك يمكن ان يكون كنايات عن بواطن لم يأذن الله لرسول الله ﷺ بان يصرح بالبواطن بل ألزمه النطق بالظواهر فصار النطق بالباطن حراما باطلا وفجورا محظورا ومراغمة لواضع الشرع وهذه التأسيسة بالاتفاق فليس أهل عصرنا مع بعد العهد بصاحب الشرع وانتشار الفساد واستيلاء الشهوات على الخلق وإعراض الكافة عن أمور الدين أطوع للحق ولا اقبل للسر ولا آمن عليه ولا أحرى بفهمه والانتفاع به من أهل عصر رسول الله ﷺ وهذه الأسرار والتأويلات ان كان لها حقيقة فقد أقفل أسماعهم عنها وألجم أفواه الناطقين عن اللهج بها ولنا في رسول الله أسوة حسنة في قوله وفعله فلا نقول إلا ما قال ولا نظهر إلا ما يظهر ونسكت عما سكت عنه وفي الافعال نحافظ على العبادات بل على التهجد والنوافل وأنواع المجاهدات ونعلم أن ما لم يستغن عنه صاحب الشرع فنحن لا نستغني عنه ولا ننخدع بقول الحمقى إن نفوسنا إذا صفت بعلم الباطن استغنينا عن الاعمال الظاهرة بل نستهزئ بهذا القائل المغرور ونقول له يا مسكين أتعتقد ان نفسك اصغي وأزكي من نفس رسول الله ﷺ وقد كان يقوم ليلا يصلى حتى تنتفخ قدماه أو يعتقد انه كان يتنمس به على عائشة ليخيل إليها أن الدين حق وقد كان عالما ببطلانه فان اعتقدت الأول فما احمقك ولا نزيدك عليه وان اعتقدت الثاني فما أكفرك واجحدك ولسنا نناظرك عليه لكنا نقول إذا أخذنا بأسوأ الأحوال وقصرت أدلة عقولنا مثلا عن درك ضلالك وجهلك وعن الاحاطة بصدق رسول الله ﷺ فإنا نرى بدائه عقولنا تقضي بأن الخسران في زمرة محمد ﷺ وموافقته والقناعة بما رضي هو لنفسه اولى من الفوز معك أيها المخذول الجاهل بل المعتوه المخبل فلينظر الآن المنصف في آخر هذا وأوله فآخره يقنع العوام بل العجائز وأوله يفيد البرهان الحقيقي لكل محقق آنس بعلوم الشرع وناهيك بكلام ينتفع به كافة الخلق على اختلاف طبقاتهم في العلم والجهل.
الفصل الثاني في استدلالهم بالأعداد والحروف
هذا فن من الجهالة اختصت به هذه الفرقة من بين الفرق فإن طوائف الضلال مع انشعاب كلامهم وانتشار طرقهم في نظم الشبهات لم تتطلخ طائفة منهم بهذا الجنس واستركوها وعلم عوامهم وجهالهم بالضرورة بطلانها فاجتووها وتشبث بها هؤلاء ولا غرو فالغريق بكل شئ يتمسك والغبي بكل ايهام يتزلزل ويتشكك ونحن نذكر شيئا يسيرا منه ليشكر الناظر فيه ربه على سلامة العقل واعتدال المزاج وصحة الفطرة فإن الانخداع بمثل ذلك لا ينبعث إلا من العته والخبل في العقل.
فقد قالوا ان الثقب على رأس الآدمي سبعة والسموات سبعة والارضون سبع والنجوم سبعة أعني السيارة وأيام الاسبوع سبعة فهذا يدل على أن دور الأئمة يتم بسبعة وزعموا ان الطبائع أربع وان فصول السنة أربعة فهذا يدل على الاصول الأربعة وهي السابق والتالي الإلآهان والناطق والأساس الإمامان. وزعموا ان البروج اثنا عشر فتدل على الحجج الاثنى عشر كما نقلناه في مذهبهم وربما استثاروا من شكل الحيوانات دلالات فقالوا الآدمي على شكل حروف محمد فان رأسه مثل ميم ويداه مبسوطتان كالحاء وعجزه ك الميم ورجلاه ك الدال وبهذا الجنس يتكلمون على شكل الطيور والبهائم وربما تأولوا من الحروف واعدادها فقالوا قد قال النبي ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها قيل وما حقها قال معرفة حدودها. وزعموا أن حدودها معرفة أسرار حروفها وهي ان لا إله إلا الله أربع كلمات وسبعة فصول وهي قطع لا إله إلا الله وثلاثة جواهر فإن لا حرف يبقى إله وإلا الله فهي ثلاثة جواهر والجملة اثنا عشر حرفا وزعموا ان الكلمات الأربع دالة على المدبرين العلوين السابق والتالي والمدبرين السفليين الناطق والاساس هذه دلالته على الروحانيات فأما على الجسمانيات فانها الطبائع الأربع واما الجواهر الثلاثة فدالة على جبريل وميكائيل وإسرافيل من الروحانيات ومن الجسمانيات على الطول والعرض والعمق إذ بها ترى الاجسام والفصول السبعة تدل من الروحانيات على الانبياء السبعة ومن الجسمانيات على الكواكب السبعة لأنه لو الأنبياء السبعة لما اختلفت الشرائع كما أنه لولا الكواكب السبعة لما اختلفت الأزمنة والحروف الاثنا عشر تدل على الحجج الاثني عشر ( وفي الجسمانيات على البروج الاثني عشر ) وهكذا تصرفوا في قول محمد رسول الله وفي الحروف وفي اوائل السور وأبرزوا ضروبا من الحماقات تضحك المجانين فضلا عن العقلاء وناهيك خزيا بطائفة هذا منهج استدلالهم.
ولسنا نكثر حكاية هذا الجنس عنهم اكتفاء بهذا القدر في تعريف مخازيهم، وهذا فن يعرف بضرورة العقل بطلانه فلا يحتاج إلى إبطاله إلا انا نعلمك في إفحام الغبي والمعاند منهم مسلكين مطالبة ومعارضة
أما المطالبة
فهو أن يقال ومن أين عرفتم هذه الدلالات ولو حكم الإنسان بها لحكم على نفسه بانه من سوء مزاجه أثار عليه الاخلاط فأورث اضغاث الأحلام وقد اضلكم الله إلى هذا الحد حتى لم يستحيوا منها أعرفتم صحتها بضرورة العقل أو نظر أو سماع من إمامكم المعصوم فإن ادعيتم الضرورة باهتم عقولكم واخترعتم ثم لم تسلموا من معارض يدعى انه عرف بالضرورة بطلانه ثم يكون مقامه من تعارض الحق بالفاسد مقام من يعارض الفاسد بالفاسد وان عرفتم بنظر العقل فنظر العقل عندكم باطل لاختلاف العقلاء في نظرهم وإن صدقتم به فأفيدونا وجه النظر وسياقه وما به الاستدلال على هذه الحماقات وان عرفتم ذلك من قول الإمام المعصوم فبينوا ان الناقل عنه معصوم أو بلغ الناقلون عنه حد التواتر ثم صححوا ان الإمام المعصوم لا يخطئ ثم بينوا انه يستحيل ان يفهم ما يعرف بطلانه فلعله خدعكم بهذه الحماقات وهويعلم بطلانها كما زعمتم أن النبي ﷺ خدع الخلق بصفة الجنة والنار وبما يحكي عن الأنبياء من إحياء الموتى وقلب العصا ثعبانا وقد كذب في جميعها وذكرها مع علمه بأنها لم يكن منها شئ وان الناس يفهمون منها على القطع ظواهرها وانه كان يقصد تفهيم الظواهر ويعلم انهم يفهمون ما يفهمهم من الظواهر وهو خلاف الحق ولكن رأى فيه مصلحة فلعل إمامكم المعصوم رأى من المصلحة ان يستهزئ بعقولكم ويضحك من أذقانكم فألقى اليكم هذه الترهات إظهارا لغاية الاستيلاء عليكم والاستعباد لكم وافتخارا بغاية الدهاء والكياسة في التلبيس عليكم فليت شعري بماذا أمنتم الكذب عليه لمصلحة رآها وقد صرحتم بذلك عن النبي ﷺ وهل بينهما فرق إلا أن النبي ﷺ مؤيد بالمعجزة الدالة على صدقه والذي إليه استرواحكم لا معجزة له سوى حماقتكم هذا سبيل المطالبة.
وأما المعارضة
فلسنا نقصد لتعيين الصور ولكن نعلمك طريقا يعم كل ما في العالم من الاشكال والحروف فان كل موجود فهو من الواحد إلى العشرة فما فوقها لا محالة فمهما رأيت شيئا واحدا فاستدل به على محمد ﷺ وإذا رأيت اثنين فقل هو دلالة على الشيخين أبي بكر وعمر وان كان ثلاثة فمحمد ﷺ وابوبكر وعمر إن كان أربعة فالخلفاء الأربعة وان كان خمسة فعلى محمد مع الخلفاء والأربعة وقل اما تعرفون السر ان الثقب على رأس الآدمي خمس ما هو الواحد وهو الفم يدل على النبي محمد ﷺ فانه واحد والعينان والمنخران على الخلفاء الأربعة ونقول اما تعرفون السر في اسم محمد وانه أربعة حروف ما هو فإذا قالوا لا فنقول هو السر الذي لا يطلع عليه إلا ملك مقرب فانه يبنيه على أن اسم خليفته أربعة حروف وهو عتيق دون علي الذي اسمه ثلاثة احرف فإذا وجدت سبعة فاستدل به على سبعة من خلفاء بني أمية مبالغة في إرغامهم وإجلالا لبني العباس عن المعارضة بهم وقل عدد السموات السبع والنجوم والاسبوع دال على معاوية ويزيد ثم مروان ثم عبد الملك ثم الوليد ثم عمر بن عبد العزيز ثم هشام ثم السابع المنتظر وهو الذي يقال له السفياني وهو قول الأموية من الإمامية أو قابلهم بمذهب الراوندية وقل إنه يدل على العباس ثم عبد الله ابن العباس ( ثم علي بن عبد الله ) ثم محمد بن علي ثم إبراهيم ثم أبو العباس السفاح ثم المنصور وكذلك ما تجده من عشرة أو اثنى عشر فعد من خلفاء بني العباس بعددهم ثم انظر هل تجد بين الكلامين فصلا وبه يتبين فساد كلامهم وافتضاحهم وإلزامهم باستدلالهم وهذا الجنس من الكلام لا يليق بالمحصل فيه الإكثار منه فلنعدل عنه إلى غيره.
الباب السادس في الكشف عن تلبيساتهم التي زوقوها بزعمهم في معرض البرهان على إبطال النظر العقلي وإثبات وجوب التعلم من الإمام المعصوم
وطريقنا ان نرتب شبههم على أقصى الإمكان ثم نكشف عن مكمن التلبيس فيها وآخر دعواهم ان العارف بحقائق الأشياء هو المتصدي للإمامة بمصر وانه يجب على كافة الخلق طاعته والتعلم منه لينالوا به سعادة الدنيا والآخرة ودليلهم عليه قولهم ان كل ما يتصور الخبر عنه بنفي وإثبات ففيه حق وباطل والحق واحد والباطل ما يقابله إذ ليس الكل حقا ولا الكل باطلا فهذه مقدمة. ثم تمييز الحق عن الباطل لا بد منه فهو أمر واجب لا يستغنى عنه أحد في صلاح دينه ودنياه فهذه مقدمة ثانية ثم درك الحق لا يخلو اما ان يعرفه الإنسان بنفسه من عقله بنظره دون تعلم أو يعرفه من غيره بتعلم فهذه مقدمة ثالثة وإذا بطلت معرفته بطريق الاستقلال بالنظر وتحكيم العقول فيه وجب التعلم من الغير ضرورة. ثم المعلم إما أن يشترط كونه معصوما من الخطأ والزلل مخصوصا بهذه الخاصية واما ان يجوز التعلم من كل أحد وإذا بطل التعلم من كل أحد أي واحد كان لكثرة القائلين المعلمين وتعارض اقوالهم ثبت وجوب التعلم من شخص مخصوص بالعصمة من سائر الناس فهذه مقدمة رابعة ثم العالم لا يخلو إما أن يجوز خلوه من ذلك المعصوم أو يستحيل خلوه وباطل تجويز خلوه لانه إذ اثبت انه مدرك الحق ففي اخلاء العالم عنه تغطية الحق وحسم السبيل عن إدراكه وفيه فساد أمور الخلق في الدين والدنيا وهو عين الظلم المناقض للحكمة فلا يجوز ذلك من الله سبحانه وهو الحكيم المقدس عن الظلم والقبائح فهذه مقدمة خامسة ثم ذلك المعصوم الذي لا بد من وجوده في العالم لا يخلو اما ان يحل له ان يخفي نفسه فلا يظهر ولا يدعو الخلق إلى الحق أو يجب عليه التصريح وباطل ان يحل له الإخفاء فإنه كتمان للحق وهو ظلم يناقض العصمة فهذه مقدمة سادسة وقد ثبت أن في العالم معصوما مصرحا بهذه الدعوى وبقي النظر في تعيينه فان كان في العالم مدعيان التبس علينا تمييز المحق عن المبطل وان لم يكن إلا مدع واحد في محل الالتباس كان ذلك هو المعصوم قطعيا ولم يفتقر إلى دليل ومعجزة ويكون مثاله ما إذا علم أن في بيت في الدار رجلا هو عالم ثم رأينا في بيت رجلا فإن كان في الدار بيت اخر بقي لنا شك في الذي رأيناه انه ذلك العالم أو غيره فإذاعرفنا أنه لا بيت في الدار سوى هذا البيت علمنا ضرورة انه العالم فكذلك القول في الإمام المعصوم فهذه مقدمة سابعة وقد علم قطعا انه لا أحد في عالم الله يدعي انه الإمام الحق والعارف بأسرار الله في جميع المشكلات النائب عن رسول الله في جميع المعقولات والمشروعات العالم بالتنزيل والتأويل علما قطعيا لا ظنيا إلا المتصدي للأمر بمصر فهذه مقدمة ثامنة.
فإذا هو الإمام المعصوم الذي يجب على كافة الخلق تعلم حقائق الحق وتعرف معاني الشرع منه وهي النتيجة التي كنا نطلبها.
وعند هذا يقولون إن من لطف الله وصنعه مع الخلق ألا يترك أحدا في الخلق يدعي العصمة سوى الإمام الحق إذ لو ظهر مدع آخر لعسر تمييز المحق عن المبطل وضل الخلق فيه فمن هذا لا نرى قط لإمام خصما بل نرى له منكرا كما أن النبي ﷺ لم يكن له خصم قط والخصم هو الذي يقول لست أنت نبيا وإنما أنا النبي والمنكر هو الذي لا يدعي لنفسه وانما ينكر نبوته فهكذا يكون أمر الإمام قالوا واما بنو العباس وان لم ينفك الزمان عن معارضتهم فلم يكن فيهم من يدعي لنفسه العصمة والاطلاع من جهة الله تعالى على حقائق الأمور وأسرار الشرع والاستغناء عن النظر والاجتهاد بالظن فهذه الخاصية هي المطلوبة وقد تفرد بهذه الدعوى عترة رسول الله ﷺ وذريته وصرف الله دواعي الخلق عن معارضتهم في الدعوى لمثلها ليستقر الحق في نصابه وينجلي الشك عن قلوب المؤمنين رحمة من الله ولطفا حتى ان فرض شخص يدعى لنفسه ذلك فلا يذكره إلا في معرض هزل أو مجادلة فأما أن يستمر عليه معتقدا أو يعمل بموجبه فلا.
وهذه مقدمات واضحة لم نهمل من جملتها إلا الدليل على إبطال نظر العقل حيث قلنا الحق اما ان يعرفه الإنسان بنفسه من عقله أو يتعلمه من غيره.
ونحن الآن ندل على بطلان نظر العقل بأدلة عقلية وشرعية وهي خمسة.
أما الأول وهي دلالة عقلية ان من يتبع موجب العقل ويصدقه ففي تصديقه تكذيبه وهو غافل عنه لانه ما من مسئلة نظرية يعتقدها بنظره العقلي إلا وله فيها خصم اعتقد بنظر العقل نقيضها فإن كان العقل حاكما صادقا فقد صدق عقل خصمك أيضا فإن قلت لم يصدق خصمي فقد تناقض كلامك إذا صدقت عقلا وكذبت مثله فان قلت صدق خصمي فخصمك يقول انت كاذب مبطل وان زعمت انه لا عقل لخصمي وانما العقل لي فهذه أيضا دعوى خصمك فبماذا تتميز عنه أبطول اللحية ام ببياض الوجه ام بكثرة السعل أو الحدة في الدعاء وعند هذا يطلقون لسان الاستهزاء والإستخفاف معتقدين ان لهم بكلامهم اليد البيضاء التي لا جواب عنها.
الدلالة الثانية قولهم إذا حاكم مسترشد تشكك في مسئلة شرعية أو عقلية وزعم انه عاجز عن معرفة دليلها فماذا تتقولون له أفتحيلونه على عقله ولعله العامي الجلف الذي لا يعرف أدلة العقول أو هو الذكي الذي ضرب سهام الرأي على حسب امكانه فلم تنكشف له المسئلة وبقي متشككا افتردونه إلى عقله الذي هو معترف بقصوره وهذا محال أو تقولون له تعلم طريق النظر ودليل المسئلة مني فان قلتم ذلك فقد ناقضتم قولكم بإبطال التعليم إذ امرتم بالتعليم وجعلتم التعليم طريقا وهو مذهبنا إلا انكم أبيتم لانفسكم منصب التعليم ولم يستحيوا من خصمكم المعارض لكم المماثل في عقله لعقلكم إن هذا المتعلم يقول قد دعاني إلى التعلم منه خصمك وقد تحيرت في تعيين المعلم أيضا وليس يدعى واحدا منكم العصمة لنفسه ولا له معجزة تميزه ولا هو منفرد بأمر يفارق به غيره فلا أدرى أتبع الفلسفي أو الأشعري أو المعتزلى وأقاويلهم متعارضة وعقولهم متماثلة ولست أجد في نفسي الترجيح بطول اللحية وببياض الوجوه ولا أرى افتراقا إلا فيه إن اتفق فأما العقل والدعوى واغترار كل بنفسه في أنه المحق وصاحبه المبطل كاغترار صاحبه فما أشد تناقض هذا الكلام عند من يعرفه.
الدلالة الثالثة قولهم الوحدة دليل الحق والكثرة دليل الباطل فإنا إذا قلنا كم الخمسة مع الخمسة فالحق واحد وهو أن يقال عشرة والباطل كثير لا حصر له وهو كل ما سوى العشرة مما فوقها أو تحتها والوحدة لازمة مذهب التعليم فانه اجتمع الف الف على هذا الاعتقاد واتحدت كلمتهم ولم يتصور بينهم اختلاف وأهل الرأي لا يزال الاختلاف والكثرة تلازمهم فدل ان الحق في الفرقة التي تلازم الوحدة كلمتها وعليه دل قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
الدلالة الرابعة قولهم الناظر ان كان لا يدرك المماثلة بين نفسه وبين خصمه فيسحن الظن بنفسه ويسئ بخصمه فلا غرو فإن هذا الغرور مما يستولي على الخلق وهو شغفهم بآرائهم وجودة عقولهم وان كان ذلك من من أدلة الحماقة وانما العجب أنه لا يدرك المماثلة بين حالتيه وكم رأى نفسه في حالة واحدة وقد تحولت حالته فاعتقد الشئ مدة وحكم بانه الحق الذي يوجبه العقل الصادق ثم يخطر له خاطر فيعتقد نقيضه ويزعم انه الآن تنبه للحق وما كان يعتقد من قبل فخيال انخدع به ويرى نفسه على اعتقاد قاطع في الحالة الثانية تساوي اعتقاده السابق فانه كان قاطعا بمثل قطعه الآن فليت شعري من أين يأمن الانخداع وانه سيتنبه لأمر يتبين به ان ما يعتقده الآن باطل وما من ناظر إلا ويعتقد مثله مرارا ثم لا يزال يعتز آخرا بمعتقده الذي يماثل سائر معتقداته التي تركها وعرف بطلانها بعد التصميم عليها والقطع بها.
الدلالة الخامسة وهي شرعية قولهم قال رسول الله ﷺ ستفترق امتي نيفا وسبعين فرقة الناجية منها واحدة فقيل ومن هم فقال أهل السنة والجماعة فقيل وما السنة والجماعة قال ما أنا الآن عليه وأصحابي قالوا وما كانوا إلا على الاتباع والتعليم في كل ما شجر بينهم وتحكيم الرسول ﷺ فيه لا على اتباع رأيهم وعقولهم فدل ان الحق في الاتباع لا في نظر العقول.
وهذا تحرير أدلتهم على أقوى وجه في الايراد وربما يعجز معظمهم عن الإتقان في تحقيقه إلى هذا الحد.
فنقول وبالله التوفيق الكلام عليه منهجان جملي وتفصلي.
المنهج الأول وهو الجملي
انا نقول هذه العقيدة التي استنتجتموها من ترتيب هذه المقدمات ونظمها بطريق النظر والتأمل فإن ادعيتم معرفتها ضرورة كنتم معاندين ولم يعجز خصومكم عن دعوى الضرورة في معرفتهم بطلان مذهبكم وان ادعوا ذلك كانوا اقوم قيلا عند المنصف وان ادعيتم إدراكها بالنظر في ترتيب هذه المقدمات ونظمها على شكل المقاييس المنتجة فقد اعترفتم بصحة النظر العقلي ويدعى بطلانه فهذا الكلام مفحم له وكاشف عن خزايته أو يقال له عرفت بطلان النظر ضرورة أو نظرا ولا سبيل إلى دعوى الضرورة فان الضروري ما يشترك في معرفته ذوو العقول السليمة كقولنا الكل اعظم من الجزء والاثنان اكبر من الواحد والشئ الواحد لا يكون قديما محدثا والشئ الواحد لا يكون في مكانين وان زعم انه أدرك بطلان النظر بالنظر فقد تناقض كلامه وهذا لا مخرج منه أبد الدهر وهو وارد على كل باطني يدعى معرفة شئ يختص به. فانه اما ان يدعي الضرورة أو النظر أو السماع من معصوم صادق يدعى معرفة صدقه وعصمته أيضا اما ضرورة أو نظرا. ولا سبيل إلى دعوى الضرورة وفي دعوى النظر إبطال عين المذهب فلتتعجب من هذا التناقض البين وغفلة هؤلاء المغرورين عنه.
فإن قال قائل من منكري النظر هذا ينقلب عليكم إذ يقال لكم وبم عرفتم صحة النظر إن ادعيتم الضرورة اقتحمتم مااستبعدتموه وتورطتم في عين ما أنكرتموه وان زعمتم أنا ادركناه نظرا فالنظر الذي به الادراك بم عرفتم صحته والخلاف قائم فيه فان ادعيتم معرفة ذلك بنظر ثالث لزم ذلك في الرابع والخامس إلى غير نهاية قلنا نعم كان هذا الكلام ينقلب إن كانت المعقولات بالموازنات اللفظية وليس الأمر كذلك فلتتأمل دقيقة الفرق فإنا نقول عرفنا كون النظر العقلي دليلا إلى العلم بالمنظور فيه بسلوك طريق النظر والوصول إليه فمن سلكه وصل ومن وصل عرف أن ما سلكه هو الطريق ومن استراب قبل السلوك فيقال طريق رفع هذه الاسترابة السلوك.
ومثاله ما إذا سئلنا عن طريق الكعبة فدللنا على طريق معين فقيل لنا من أين عرفتم كونه طريقا قلنا عرفناه بالسلوك بأنا سلكناه فوصلنا إلى الكعبة فعرفنا كونه طريقا ومثاله الثاني أنا إذا قيل لنا بم عرفتم ان النظر في الأمور الحسابيه من الهندسة والمساحة وغيرها طريق إلى معرفة ما لا يعرف اضطرارا قلنا سلوك طريق الحساب إذ سلكناه فأفادنا علما بالمنظور فيه فعلمنا ان نظر العقل دليل في الحساب وكذلك في العقليات سلكنا الطريق النظرية فوصلنا إلى العلم بالمعقولات فعرفنا أن النظر طريق. فهذا لا تناقض فيه فان قيل وبم عرفتم ان ما وصلتم إليه علم متعلق بالمعلوم على ما هو به بل هو جهل ظننتموه علما قلنا ولو أنكر العلوم الحسابية منكر فماذا يقال له أو ليس يسفه في عقله ويقال له هذا يدل على قلة بصيرتك بالحسابيات فإن الناظر في الهندسة إذا حصر المقدمات ورتبها على الشكل الواجب يحصل العلم بالنتيجة ضرورة على وجه لا يتمارى فيه فهكذا جوابنا في المعقولات فان المقدمات النظرية إذا رتبت على شروطها افادت العلم بالنتيجة على وجه الارض لا يتمارى فيه ويكون العلم المستفاد من المقدمات بعد حصولها ضروريا كالعلم بالمقدمات الضرورية المنتجه له وإن اردنا أن نكشف ذلك لمن قلت بضاعته في العلوم فنضرب له مثالا هندسيا ثم نضرب له مثالا عقليا لينكشف له الغطاء وينجلي عن عقيدته الخفاء. اما المثال الهندسي فهو ان إقليدس رسم في مصنفه في الشكل الأول من المقالة الأولى مثلثا وادعى انه متساوي الاضلاع ولا يعرف ذلك ببديهة العقل ولكنه ادعى انه يعرف بالبرهان نظرا وبرهانه بمقدمات (الأولى) ان الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى المحيط متساوية من كل جانب وهذه المقدمة ضرورية إذ الدائرة ترسم بالبركار على فتح واحد وانما الخط المستقيم من المركز إلى الدائرة هوفتح البركار وهو واحد في الجوانب. (المقدمة الثانية) إذا تساوت دائرتان بالخطوط المستقيمة من مركزهما إلى محيطهما فالخطوط أيضا متساوية وهذه أيضا ضرورية. (المقدمة الثالثة) أن المساوي للمساوي مساو وهذه أيضا ضرورية ثم الآن نشتغل بالمثلث ونشير إلى خطين منه ونقول إنهما متساويان لانهما خطان مستقيمان خرجا من مركز دائرة إلى محيطها والخط الثالث مثل لاحدهما لانه خرج أيضا من مركز الدائرة إلى محيطها مع ذلك الخط وإذا ساوى أحد الخطين فقد ساوى الآخر فإن المساوي للمساوي مساو فبعد هذا النظر نعلم قطعا تساوي أضلاع المثلث المفروض كما عرف سائر المقدمات مثل قولنا الخطوط المستقيمة من مركز الدائرة إلى المحيط متماثلة وغيرها من المقدمات.
المثال العقلي الإلهي
وهو أنا إذا أردنا أن ندل على واجب الوجود القائم بنفسه المستغني عن غيره الذي منه يستفيد كل موجود وجوده لم ندرك ثبوت موجود واجب الوجود مستغنيا عن غيره بالضرورة بل بالنظر ومعنى النظر هو أنا نقول لا شك في أصل الوجود وانه ثابت فإن من قال لاموجود اصلا في العالم فقد باهت الضرورة والحس فقولنا لا شك في اصل الوجود مقدمة ضرورية ثم نقول والوجود المعترف به من الكل إما واجب وإما جائز فهذه المقدمة أيضا ضرورية فإنها حاصرة بين النفي والإثبات مثل قولنا الموجود إما ان يكون قديما أو حادثا فيكون صدقه ضروريا وهكذا كل تقسيم دائر بين النفي والإثبات ومعناه ان الموجودات إما ان تكون استغنت أو لم تستغن والاستغناء عن السبب هو المراد بالوجوب وعدم الاستغناء هو المراد بالجواز فهذه مقدمة ثالثة ثم نقول ان كان هذا الموجود المعترف به واجبا فقد ثبت واجب الوجود وان كان جائزا فكل جائز مفتقر إلى واجب الوجود ومعنى جوازه أنه أمكن عدمه ووجوده على حد واحد وما هذا وصفه لا يتميز وجوده عن عدمه إلا بمخصص وهذا أيضا ضروري فقد ثبت بهذه المقدمات الضرورية واجب الوجود وصار العلم بعد حصوله ضروريا لا يتمارى فيه فان قيل فيه موضع شك إذ يقول المعترف به جائز ويقول قولكم إنه يفتقر إلى واجب كل جائز وجوده غير مسلم بل يفتقر إلى سبب ثم ذلك السبب يجوز أن يكون جائز الوجود قلنا في تلك المقدمات ما اشتمل على رفع هذا بالقوة فان كل ما ثبت له الجواز فافتقاره إلى سبب ضروري فإن قدر السبب جائزا دخل في الجملة التي سميناها كلا ونحن نعلم بالضرورة ان كل الجائزات تفتقر إلى سبب فإن فرضت السبب جائزا فافرضه داخلا في الجملة واطلب سببه إذ يستحيل ان يسند ذلك جائزا آخر وهكذا إلى غير نهاية فانه يكون عند ذلك حميع الأسباب والمسببات جملة جائزة ووصف الجواز يصدق على آحادها وعلى مجموعها فيفتقر المجموع إلى سبب خارج عن وصف الجواز المخرج وفيه ضرورة إثبات واجب الوجود ثم بعد ذلك نتكلم في صفته ونبين أنه لا يجوز ان يكون واجب الوجود جسما ولا منطبعا في جسم ولا متغيرا ولا متحيزا إلى سائر ما يتبع ذلك ويثبت كل واحد منها بمقدمات لا شك فيها وتكون النتيجة بعد حصولها من المقدمات في الظهور على ذوق المقدمات.
فإن قيل العلوم الحسابية معترف بها لانها ضرورية ولذلك لم يختلف فيها واما النظريات العقلية فان كانت مقدماتها كذلك فلم وقع الاختلاف فيها فوقوع الاختلاف فيها يقطع الامان قلنا هذا باطل من وجهين (أحدهما) أن العلوم الحسابية اختلف فيها تفصيلا وجملة من وجهين أحدهما ان الأوائل قد اختلفوا في كثير من هيئات الفلك ومعرفة مقاديرها وهي مثبتة على مقدمات حسابية ولكن متى كثرت المقدمات وتسلسلت ضعف الذهن عن حفظها فربما تزل واحدة عن الذهن فيغلظ في النتيجة وامكان ذلك لا يشككنا في الطريق نعم الخلاف فيها اندر لانها اظهر وفي العقليات أكثر لانها اخفى واستر ومن النظريات ما ظهر فاتفقوا عليه وهو أن القديم لا يعدم فهذه مسألة نظرية ولم يخالف فيها أحد البته فلا فرق بين الحسابية والعقلية. الثاني ان من حصر مدارك العلوم في الحواس وانكر العلوم النظرية جملة الحسابية وغير الحسابية فخلاف هؤلاء هل يشككنا في علمنا بأن العلوم الحسابية صادقة حقيقة فإن قلتم نعم اتضح ميلكم على الانصاف وان قلتم لا فلم وقع الخلاف فيه فان قلتم خلافه لم يشككنا في المقدمات فلم يشككنا في النتيجة فكذلك خلاف من خالفنا في تفصيل ماعرفناه من الدلالة على ثبوت واجب الوجود لم يشككنا في مقدمات الدليل فلم يشككنا في النتيجة.
والوجه الآخر من الجواب هو أن السوفسطائية أنكروا الضروريات وخالفوا فيها وزعموا انها خيالات لا أصل لها واستدلوا عليه بان أظهرها المحسوسات ولا ثقة بقطع الإنسان بحسه ومهما شاهد انسانا وكلمه فقوله اقطع بحضوره وكلامه فهو خطأ فلعله يراه في المنام فكم من منام يراه الإنسان ويقطع به ولا يتمارى مع نفسه في تحققه ثم ينتبه على الفور فيبين انه لا وجود له حتى يرى في المنام يد نفسه مقطوعة ورأسه مفصولا ويقطع به ولا وجود لما يقطع به ثم خلاف هؤلاء لا يشككنا في الضروريات وكذلك النظريات فانها بعد حصولها من المقدمات تبقى ضرورية لايتمارى فيها كما في الحسابيات.
وهذا كله كلام على من ينكر النظر جملة اما التعليمية فلا يقدرون على إطلاق القول بإبطال النظر جملة فانهم يسوقون الادلة والبراهين على إثبات التعليم ويرتبون المقدمات كما حكيناه فكيف ينكرون ذلك فمن هنا قالوا نظر العقل باطل فيقال وبم عرفتم بطلانه وثبوت التعليم أبنظر أم ضرورة ولا بد أن يقال بنظر ومهما استدل بالخلاف في النظريات على فساد النظريات فقابله بالخلاف من السوفسطائية في الضروريات ولا فرق بين المقامين فإذا قالوا وبم أمنت الخطأ وكم من مرة اعتدت الشئ نظرا ثم بان خلافه فيقال له وبم عرفت حضورك بهذا البلد الذي أنت فيه وكم من كرة اعتقدت نفسك ورأيتها ببلد آخر لم تكن فيه فيم تميز بين النوم واليقظة وبم تأمن على نفسك فلعلك الآن في هذا الكلام نائم فان زعم اني ادرك التفرقة ضرورة فيقال وأنا أدركت التفرقة بين ما يجوز الغلط فيه من المقدمات ومالا يجوز أيضا ضرورة ولا فرق وكذلك كم يغلط الإنسان في الحساب ثم ينتبه وإذا تنبه ادرك التفرقة ضرورة بين حالة الاصابة والخطأ فان قال قائل من الباطنية نحن ننكر النظر جملة وما ذكرتم ليس من النظريات في شئ بل هي مقدمات ضرورية قطعية رتبناها قلنا فأنتم الآن لم تفهموا معنى النظر اذي نقول به فلسنا نقول إلا بمثل ما نظمتموه من المقدمات الضرورية الحقيقية كما سنبينها فكل قياس لم يكن بنظم مقدمات ضرورية أو بنظم مقدمات مستنتجة من ضرورية فلا حجة فيه فهذا هو القياس المعقول وانما ينتظم أبدا من مقدمتين إما مطلقة وإما تقسيمية وقد تسمى حملية وشرطية أما المطلقة فكقولنا العالم حادث وكل حادث فله سبب فهاتان مقدمتان الأولى حسية والثانية ضرورية عقلية ونتجيته ان لحوادث العالم إذا سببا. وأما التقسيمية فهو أنا نقول إذا ثبت ان لحوادث العالم سببافالسبب المفروض اما حادث واما قديم فان بطل كونه حادثا ثبت كونه قديما ثم نبطل كونه حادثا بمثل هذه المقاييس فيثبت بالآخرة ان لوجود العالم سببا قديما فهذا هو النظر المقول به فان كنتم متشككين في صحته فبم تنكرون من يمتنع من قبول مقدماتكم التي نظمتموها ويقول انا متشكك في صحتها فان نسبتموه إلى إنكار الضرورة نسبناكم إلى مثله فيما ادعينا معرفته بالنظر ولا فرق.
هذا هو المنهج الجملي في الرد عليهم إذا أبطلوا نظر العقول وهو الجزم الواجب في إفحامهم فلا ينبغي ان نخوض معهم في التفصيل بل نقتصر على أن نقول لهم كل ما عرفتموه من مذهبكم من صدق الإمام وعصمته وبطلان الرأي ووجوب التعليم بماذا عرفتموه ودعوى الضرورة غير ممكنة فيبقى النظر والسماع وصدق السمع أيضا لا يعرف ضرورة فيبقى النظر وهذا لا مخرج عنه فان قال قائل لا يظن بعاقل يدعي مذهبا ليس ضروريا ثم ينكر النظر فلعلهم يعترفون بالنظر إلا انهم يقولون تعلم طريق النظر واجب فان الإنسان لا يسستقل بنفسه في النظريات. فان أنكرتم ذلك فقد أنكرتم العقول بديهة إذ لم يترشح المدرسون والمعلمون إلا للتعليم فلم تصدوا مع الاستغناء عنهم وان اعترفتم بذلك فقد اعترفتم بوجوب المعلم وان العقول ليس في مجردها غنية فبقي انكم جوزتم التعلم من كل أحد وهم اوجبوا التعلم من معصوم لان مذاهب المعلمين مختلفة ومتعارضة ولا ترجيح للبعض على البعض. قلنا وهذا السؤال أيضا فاسد فانا لا ننكر الحاجة إلى التعلم بل العلوم منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
قسم لا يمكن تحصيله إلا بالسماع والتعلم كالإخبار عما مضى من الوقائع ومعجزات الانبياء وما يقع في القيامة وأحوال الجنة والنار فهذا لا يعرف إلا بالسماع من النبي المعصوم أو بالخبر المتواتر عنه فان سمع بقول الآحاد حصل به علم ظني لا يقيني هذا قسم
والقسم الآخر من العلوم النظرية العقلية فليس في الفطرة ما يرشد إلى الأدلة فيه بل لا بد فيه من التعلم لا ليقلد المعلم فيه بل لينبهه المعلم على طريقه ثم يرجع العاقل فيه إلى نفسه فيدركه بنظره وعند هذا فليكن المعلم من كان ولو افسق الخلق واكذبهم فإنا لسنا نقلده بل نتنبه بتنبيهه فلا نحتاج فيه إلى معصوم وهي كالعلوم الحسابية والهندسية لا تعلم بالفطرة وتحتاج إلى المعلم ونستغني عن معلم معصوم بل يتعلم طريق البرهان ويساوي المتعلم المعلم بعد النظر في العقليات عندنا فالحسابيات عندهم وكم من شخص يغلط في الحسابيات ثم يتنبه بالآخرة بعد زمان وذلك لا يشكك في الادلة والبراهين الحسابية ولا يحتمل الافتقار فيها إلى معلم معصوم.
القسم الثالث العلوم الشرعية الفقهية وهو معرفة الحلال والحرام والواجب والندب وأصل هذا العلم السماع من صاحب الشرع والسماع منه يورث العلم إلا ان هذالا يمكن تحصيل العلم القطعي فيه على الإطلاق في حق كل شخص وفي كل واقعة بل لابد من الاكتفاء بالظن فيه ضرورة في طريقين أحدهما في المستمعين فان الخلق في عصر النبي ﷺ انقسموا أى من شاهد فسمع وتحقق وعرف والى من غاب فسمع من المبلغين وآحاد الامراء والولاة فاستفادوا ظنا من قولة الآحاد ولكن وجب عليهم العمل بالظن للضرورة فان النبي ﷺ عجز عن أسماع كل واحد بنفسه من غير واسطة ولم يشترط ان تتواتر عنه كل كلمة في كل واقعة لتعذره والعلم يحصل باحد هذين المسلكين وهو متعذر قطعا. والطرف الثاني في نفس الصورة الفقهية والحوادث الواقعة إذن ما من واقعة إلا وفيها تكليف والوقائع لا حصر لها بل هي في الامكان غير متناهية والنصوص لا تفرض إلا محصورة متناهية ولا يحيط قط ما يتناهى بما لا يتناهى وغاية صاحب الشرع مثلا ان ينص على حكم كل صورة اشتمل عليها تصنيف المصنفين في الفقه إلى عصرنا هذا ولو فعل ذلك واستوفاه كانت الوقائع الممكنة الخارجة عن التصانيف أكثر من المسطورات فيها بل لا نسبة لها اليها فان المسطورات محصورة والممكنات لا حصر لها فكيف يستوفي ما لا يتناهى بالنص فبالضرورة لا بد من تحكيم الظن في التعلق بصيغ العمومات وان كان يحتمل انها اطلقت لإرادة الخصوص إذ عليها أكثر العمومات ولذلك لما بعث رسول الله ﷺ معاذا إلى اليمن وقال له بم تحكم فقال بكتاب الله قال فان لم تجد قال فبسنة رسول الله قال فان لم تجد قال اجتهد رأيي فقال ﷺ الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه رسوله فانما رخص له في اجتهاد الرأي لضرورة العجز عن استيعاب النصوص للوقائع.
هذا بيان هذا القسم ولا حاجة فيه إلى إمام معصوم بل لا يغني الإمام المعصوم شيئا فانه لا يزيد على صاحب الشرع وهو لم يغن في كلا الطرفين فلا قدرة على استيعاب الصور بالنصوص ولا قدرة على مشافهة جميع الخلق ولا على تكليفهم اشتراط التواتر في كل ما ينقل عنه عليه السلام فليت شعري معلمهم المعصوم ماذا يغني في هذين الطرفين أيعرف كافة الخلق نصوص أقاويله وهم في أقصى الشرق والغرب بقول آحاد هؤلاء الدعاة ولا عصمة لهم حتى يوثق بهم أو يشترط التواتر عنه في كل كلمة وهو في نفسه محتجب لا يلقاه إلا الاحاد والشواذ هذا لو سلم انه مطلع على الحق بالوحي في كل واقعة كما كان صاحب الشرع فكيف والحال كما نعرفه ويعرفه خواص أشياعه المحدقين به في بلده وولايته.
فقد انكشف بهذا الكلام انهم يلبّسون ويقولون ان قلتم لا حاجة إلى التعليم فقد أنكرتم العادات وان اعترفتم فقد وافقتمونا على إثبات التعليم فيأخذون التعليم لفظا مجملا مسلما ثم يفصلونه بأن فيه اعترافا بوجوب التعلم من المعصوم فقد فهمت أي علم يستغنى فيه عن المعلم واي علم يحتاج فيه إليه وإذا احتيج فما الذي يستفاد من المعلم طريقه ولا يقلد في نفسه فيستغني عن عصمته وما الذي يقلد في نفسه فيحتاج فيه إلى عصمته وان ذلك المعصوم هو النبي ﷺ وان ما يؤخذ منه كيف ينقسم إلى ما يعلم تحقيقا والى ما يظن وان كافة الخلق كيف يضطرون إلى القناعة بالظن في صدق مبلغ الخبر عن صاحب الشرع وفي الحاق غير المنصوص إلى النصوص وإذا ايقنت هذه القاعدة استوليت على كشف تلبيساتهم كلها فان عادتهم ابدا إطلاق مقدمات مهملة بنوا عليها النتيجة الفاسدة كقولهم انكم إذا اعترفتم بالحاجة إلى التعليم فقد اعترفتم بمذهبنا فنقول اعترافنا بالتعلم في النظريات كاعترافكم به في الحسابيات. هذا منهج الكلام الجملي عليهم.
المنهج الثاني في الرد عليهم تفصيلا
وسبيلنا أن نتكلم على كل مقدمة من مقدماتهم الثماني التي نظمناها فنقول.
المقدمة الأولى وهي قولكم إن كل شىء يتكلم فيه بنفي وإثبات ففيه حق وباطل والحق واحد والباطل ما يقابله فهذه مقدمة صادقة لا نعتقد نزاعا فيها ولكن لا يصح منكم استعمالها فانا نقول من الناس من أنكر حقائق الأشياء وزعم انه لا حق ولا باطل وان الأشياء تابعة للإعتقادات فما يعتقد فيه الوجود فهو موجود في حق ذلك المعتقد وما يعتقد فيه العدم فهو معدوم في حق المعتقد وهذه مقالة فرقة من فرق السوفسطائية وربما يقولون الأشياء لا حقيقة لها فنقول هل هذه المقدمة مقدمة يقطعون بها وأنتم ترونها في المنام ولا حقيقة لها فبماذا أمنتم الغلط فيها وكم رأيتم أنفسكم في المنام قاطعين بأمر لا حقيقة له وما الذي آمنكم من اصابة خصومكم وخطئكم ولا نزال نورد عليهم ما يوردونه على أهل النظر للتشكيك فيه فلا يجدون فصلا فان زعموا أنا نعرف ضرورة خطأ من يخالفنا من السوفسطائية ونعلم ضرورة صدق هذه المقدمة قيل لهم فبم تنكرون على أهل النظر إذا ادعو ذلك في مذهبهم وفي تفريقهم بين ما غالطوا فيه وبين مالم يغالطوا فيه وفرقهم بين أنفسهم ومخالفيهم فإن زعموا ان ذلك يفتقر فيه إلى تأمل وما نحن فيه بديهي فنقول والحسابيات يحتاج فيها إلى أدق تأمل فإن غلط في مسئلة عرفتموها من الحساب رجل قصر نظره أو ضعف ذكاؤه فهل يشكككم ذلك في أن العلوم الحسابية صادقة فإن قلتم لا قيل فهكذا حال النظار المحققين إذا خالفهم المخالفون وهذا ينبغي ان يكون عليهم في كل مقام لان تبجحهم الاكثر باختلاف النظار وان ذلك ينبغي ان يسقط الامان وخلافنا لهم لم يسقط امانهم عن مقدماتهم التي نظموها ثم طمعوا مع ذلك ان يسقط اماننا عن النظريات بخلاف المخالف فيها وهذا من الطمع البارد والظن الركيك الذي لا ينخدع بمثله عاقل.
أما المقدمة الثانية وهي قولهم إذا ثبت في كل واقعة حق وباطل فلابد من معرفة الحق فيه فهذه مقدمة كاذبة إذ تسلموها جملة وفيها تفصيل وهذه عادتهم في التلبيس فلا يغفلن عنها المحصل فنقول قول القائل الحق لا بد من معرفته كقول القائل المسئلة لا بد من معرفتها أو المسائل لا بد من معرفتها فيقال هذا خطأ بل المسئلة اسم جنس يتناول ما لا بد من معرفته وما عن معرفته بد فلابد من تفصيل وكذلك الحق بنا غنية عن معرفته في أكثر الأمور فإن جملة التواريخ والأخبار التي كانت وستكون إلى منقرض العالم أو هي كائنة واقعة اليوم في العالم يتكلم فيها بنص وإثبات والحق واحد ولا حاجة بنا إلى معرفته وهذا كقول القائل ملك الروم الآن قائم ام لا والحق أحدهما لا محالة ما تحت قدمي من الارض بعد مجاوزة خمسة اذرع حجر أو تراب وفيه دود ام لا والحق أحدهما لا محالة ومقدار كرة الشمس أو زحل ومسافتهما مائة فرسخ ام لا والحق أحدهما وهكذا مساحات الجبال والبلاد وعدد الحيوانات في البر والبحر وعدد الرمل فهذه كلها فيها حق وباطل ولا حاجة إلى معرفتها بل العلوم المشهورة من النحو والشعر والطب والفلسفة والكلام وغيرها فمنها حق وباطل ولا حاجة بنا إلى أكثر ما قيل فيها بل الذي نسلم انه لا بد من معرفته مسألتان وجود الصانع تعالى وصدق الرسول ﷺ وهذا لا بد منه ثم إذا اثبت صدق الرسول فالباقي يتعلق به تقليدا أو علما بخبر المتواتر أو ظنا بخبر الواحد وذلك من العلوم كاف في الدنيا والآخرة وما عداه مستغنى عنه أما وجود الصانع وصدق الرسول فطريق معرفته النظر في الخلق حتى يستدل به على الخالق وفي المعجزة حتى يستدل بها على صدق الرسول وهذان لا حاجة فيهما إلى معلم معصوم فان الناس فيه قسمان قسم اعتقدوا ذلك تقليدا وسماعا من ابويهم وصمموا عليه العقد قاطعين به وناطقين بقولهم لا اله إلا الله محمد رسول الله ﷺ من غيربحث عن الطرق البرهانية وهؤلاء هم المسلمون حقا وذلك الاعتقاد يكفيهم وليس عليهم طلب طرق البراهين وعرفنا ذلك قطعا من صاحب الشرع فانه كان يقصده اجلاف العرب واغمار أهل السواد والجملة طائفة لو قطعوا ارابا لم يدركوا شيئا من البراهين العقلية بل لا يبين تمييزهم عن البهائم إلا بالنطق وكان يعرض عليهم كلمة الشهادتين ثم يحكم لهم بالايمان ويقنع منهم به وامرهم بالعبادات فعلم قطعا ان الاعتقاد المصمم كاف وان لم يكن عن برهان بل كان عن تقليد وربما كان يتقدم إليه الاعرابي فيحلفه انه رسول الله وانه صادق فيما يقول فيحلف له ويصدقه فيحكم بإسلامه فهؤلاء اعني المقلدين يستغنون عن الإمام المعصوم.
القسم الثاني من اضطرب عليه تقليده إما بتفكر وإما بتشكيك غيره إياه أو بتأمله بأن الخطأ جائز على آرائه فهذا لا ينجيه إلا البرهان القاطع الدال على وجود الصانع وهو النظر في الصنع وعلى صدق الرسول وهو النظر في المعجزة وليت شعري ماذا يغني عنهم إمامهم المعصوم أيقول له اعتقد ان للعالم صانعا وان محمدا ﷺ صادق تقليدا لي من غير دليل فاني الإمام المعصوم أو يذكر له الدليل فينبهه على وجه دلالته فان كان سومه التقليد فمن أي وجه يصدقه بل من اين يعرف عصمته وهو ليس يعرف عصمة صاحبه الذي يزعم انه خليفته بعد درجات كبيرة وان ذكر الدليل افتقر المسترشد إلى ان ينظر في الدليل ويتأمل في ترتيبه ووجه دلالته ام لا فان لم يتأمل فكيف يدرك دون النظر والتأمل وهذه العلوم ليست ضرورية وان تأمل وادرك نتاج المقدمات الضرورية المنتجة المطلوبة بتأمله وخرج به عن حد التقليد هـ فما الفرق بين ان يكون المنبه له على وجه الدلالة ونظم المقدمات هو هذا المشار إليه المعصوم أو داعية أو عالم آخر من علماء الزمان فان كل واحد ليس يدعوه إلى تقليده وانما يقوده إلى مقتضى الدليل ولا يدرك مقتضى الدليل إلا بالتأمل فإذا تأمل وادرك لم يكن مقلدا لمعلمه بل كان كمتعلم للأدلة الحسابية ولا فرق في ذلك بين أفسق الخلق وبين اورعهم كمعلم الحساب فلا يحتاج فيه إلى الورع فضلا عن العصمة لانه ليس مقلدا وانما الدليل هو المتبع فإذا لا يعدو الخلق هذين القسمين فالأول مستغن عن المعصوم والثاني لا يغني عنه المعصوم شيئا فقد بطلت مقدمتان إحداهما أن كل حق فلا بد من معرفته والاخرى انه لا يعرف الحق إلا من معصوم.
فإن قيل لا تكفي معرفة الله ورسوله بل لا بد من معرفة صفات الله ومعرفة الأحكام الشرعية قلنا أما صفات الله تعالى فقسمان قسم لا يمكن معرفة صدق الرسول وبعثته إلا بعد معرفته ككونه عالما وقادرا على الارسال فهذا يعرف عندنا بالأدلة العقلية كما ذكرناه والمعصوم لا يغني لان المعتقد له تقليدا أو سماعا من ابويه مستغن عن المعلم كما سبق والمتردد فيه ماذا يغني عنه المعصوم أفيقول له قلدني في انه تعالى قادر عالم فيقول له كيف أقلدك ولم تسمح نفسي بتقليد محمد بن عبد الله ﷺ وهو صاحب المعجزة وإن ذكر له وجه الدليل اعاد القول فيه إلى ما مضى في اصل وجود الصانع وصدق الرسول من غير فرق. واما الأحكام الشرعية فلا بد لكل واحد من معرفة ما يحتاج إليه في واجباته وهي قسمان.
القسم الأول ما يمكن معرفته قطعا وهو الذي اشتمل عليه نص القرآن وتواتر عنه الخبر من صاحب الشرع كعدد ركعات الصلوات الخمس ومقادير النصب في الزكوات وقوانين العبادات وأركان الحج أو ما اجمعت عليه الأمة فهذا القسم لا حاجة فيه إلى امام معصوم أصلا.
القسم الثاني ما لا يمكن معرفته قطعا بل يتطرق الظن إليه كما كان يجب على الخلق في زمان رسول الله ﷺ في سائر الأقطار. واما صورة لا نص فيها فيحتاج إلى تشبيهها بالنصوص عليه وتقريبها منه بالاجتهاد وهو الذي قال معاذ فيه أجتهد رأيي وكون هذا مظنونا ضروري في الطرفين جميعا إذ لا يمكن شرط التواتر في الكل ولا يمكن استيعاب جميع الصور بالنص فلا يغني المعصوم في هذا شيئا فانه لا يقدر على أن يجعل ما نقله الواحد متواترا بل لو تيقنه لم يقدر على مشافهة كافة الخلق به ولا تكليفهم السماع عنه تواترا فيقلد اشياعه دعاة المعصوم وهم غير معصومين بل يجوز عليهم الخطأ والكذب فنحن نقلد علماء الشرع وهو دعاة محمد ﷺ المؤيد بالمعجزات الباهرة فأي حاجة إلى المعصوم فيه وأما الصورة التي ليست منصوصة فيجتهد فيها الرأي إذ المعصوم لا يغني عنها شيئا فإنه بين ان يعترف بانه أيضا ظان والخطأ جائز في كل ذي ظن ولا يختلف ذلك بالأشخاص فما الذي يميز ظنه من ظن غيره وهو مجوز للخطأعلى نفسه وإن ادعى المعرفة فيه أيدعيها عن وحي أو عن سماع نص فيه أو عن دليل عقلي فإن ادعى تواتر الوحي إليه في كل واقعة فإذا هو مدع للنبوة فيفتقر إلى معجزة كيف ولا يتصور تقدير المعجزة إذ بان لنا أن محمدا ﷺ خاتم الانبياء فإن جوزنا الكذب على محمد في قوله أنا خاتم الانبياءمع إقامة المعجزة فكيف نأمن الكذب هذا المعصوم وإن أقام المعجزة وان ادعى معرفته عن نص بلغه فكيف لا يستحي من دعوى نص صاحب الشرع على وقائع لايتصور حصرها وعدها بل لو عمر الإنسان عمر نوح ولم يشتغل إلا بعد الصور والنصوص عليها لم يستوعب عشر عشرها ففي أي عمر استوعب الرسول ﷺ جميع الصور بالنص فان ادعى المعرفة بدليل عقلي فما اجهله بالفقهيات والعقليات جميعا إذ الشرعيات أمور وضعية اصطلاحية تختلف بأوضاع الانبياء والاعصار والامم كما نرى الشرائع مختلفة فكيف تجوز فيها الادلة العقلية القاطعة وان ادعاها عن دليل عقلي مفيد للنظر فالفقهاء كلهم لهم هذه الرتبة.
فاستبان أن ما ذكروه تلبيس بعيد عن التحقيق وان العامي المنخدع به في غاية الحمق لانهم يلبسون على العوام بان يتبعوا الظن وان الظن لا يغني عن الحق شيئا والفقهيات لا بد فيها من اتباع الظن فهو ضروري كما في التجارات والسياسات وفصل الخصومات للمصالح فان كل الأمور المصلحية تبنى على الظن والمعصوم كيف يغني عن هذا الظن وصاحب الشريعة لم يغن عنه ولم يقدر عليه بل أذن في الاجتهاد وفي الاعتماد على قول آحاد الرواة عنه وفي التمسك بعمومات الألفاظ وكل ذلك ظن عمل به في عصره مع وجوده فكيف يستقبح ذلك بعد وفاته.
فان قيل فإذا اختلف المجتهدون لاختلاف مسالك الظنون فماذا ترون وإن قلتم كل مجتهد مصيب تناقض كلامكم فان خصومكم مهما أصابوا في اعتقادهم يقولون إنكم اخطأتم أفلستم مصيبين إذا فكيف وفي الفرق من يستبيح سفك دمائكم فإن كانوا مصيبين أيضا فنحن في سفك دمائكم ونهب أموالكم مصيبون فلم تنكرون علينا وان قلتم ان المصيب واحد فبم نميز المصيب من المخطئ وكيف نتخلص من خطر الخطأ والظن قلنا فيه رأيان فان قلنا كل مجتهد مصيب لم نتناقض إذ نريد به أنه مصيب حكم الله في حق نفسه ومقلديه إذ حكم الله عليه ان يتبع غالب ظنه في كل واقعة وقد اتبع وهذا حكم الله على خصمه وقولهم انه مصيب إذا في سفك الدم فهو كلام جاهل بالفقهيات فان ما افترق فيه الفرق مما يرى فيه سفك الدماء مسائل قطعية عقلية المصيب فيها واحد والمسائل الظنية الفقهية المختلف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة ومالك لا تفضي إلى التقاتل وسفك الدماء بل كل فريق يعتقد احترام الفريق الاخر حتى يحكم بانه لا ينقض حكمه إذا قضى به وانه يجب على المخالف الاتباع نعم اختلفوا في انه هل يطلق اسم الخطأ على الفرقة الأخرى في غير إنكار واعتراض ام لا وقولهم ان خصمك يقول انت مخطئ فإن كان هو مصيبا فإذا انت مخطئ قلنا ان قال خصمي انت مخطئ أي أظن خطأك فهو صادق وأنا أيضا صادق في قولي اني مصيب ولا تناقض وان قال اقطع بانك مخطئ فليس مصيبا في هذا القول بل بطلان قول من يقطع بالخطأ في المجتهدات ليس مظنونا بل هو مقطوع به في جملة المسائل القطعية الأصولية فالقول ان المصيب من المجتهدين كلاهما أو أحدهما مسألة اصولية قطعية لا ظنية وقد التبست عليهم الاصوليات بالفقهيات الظنية ومهما كشف الغطاء لم يتناقض الكلام فان قيل فإذا رأيتم كل واحد مصيبا فليجز للمجتهد ان يأخذ بقول خصمه ويعمل به لانه مصيب وليجز للمقلد ان يتبع من شاء من الأئمة المجتهدين قلنا أما اتباع المجتهد لغيره فخطأ فإن حكم الله عليه ان يتبع ظن نفسه وهذا مقطوع به فإذا اتبع ظن غيره فقد أخطأ في مسئلة قطعيه اصولية وعرف ذلك بالاجماع القاطع وأما بخبر المقلدين الأئمة فقد قال به قائلون ولكن المختار عندنا انه يجب ان يقلد من يعتقد انه افضل القوم واعرفهم ومستند اعتقاده إما تقليد سماعي من الأبوين وإما بحث عامي عن أحواله وإما تسامع عن ألسنة الفقهاء وبالجملة يحصل له ظن غالب من هذه المستندات فعليه اتباع ظن نفسه كما على المجتهد اتباع ظن نفسه وهذا ليس بكلي في الشرع لان الشرع يشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحة كلية في الجملة أما الجزئية فما يعرف عنها دليل كل حكم وحكمته اما المصلحة الكلية فهي ان يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله وإعتقاداته فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام التقوى وتأديب الشرع وتقسيمه إلى ما يطلقه والى ما يحجر عليه فيه فيقدم حتى يطلق الشرع ويمتنع حيث يمنع ولا يتخذ إلهه هواه ويتبع فيه مناه ومهما خبرنا المقدين في مذاهب الأئمة ليستمد منها أطيبها عنده اضطراب القائلون في حقه فلا يبقى له مرجع إلا شهوته في الاختيار وهو مناقض للغرض الكلي فرأينا أن نحصره في قالب وان نضبطه بضابط وهو رأي شخص واحد لهذا المعنة ولهذا اختلفت قوانين الأنبياء في الاعصار بالإضافة إلى التفصيل ولم تختلف في اصل التكليف ودعوة الخلق عن اتباع الهوى إلى طاعة قانون الشرع فهذا ما نراه مختارا في حق آحاد المقلدين هذا أحد الرأيين وهوان كل مجتهد مصيب ومن رأى أن المصيب واحد فلا تناقض أيضا في كلامه وقوله بم يأمن من إمكان الخطأ قلنا أولا تعارضهم فمن كان مسكنه بعيدا عن رسول الله ﷺ وكان يعول على قول الواحد وكذا من مسكنه بعيد عن معصومكم بينه وبينه البحار الحاجزة والمهامة المهلكة بم يأمن الخطأ على المبلغ وهو غير معصوم فسيقولون يحكم بالظن وليس عليه أكثر من ذلك فهذا جوابنا فإن قلتم إن له طريقا إلى الخلاص من الظن وهو أن يقصد النبي ﷺ فان التوجه إليه من الممكنات فكذا يقصد للإمام المعصوم في كل زمان قلنا وهل يجب قصد ذلك مهما جوز الخطأ فإن قلتم لا فأي فائدة في امكانه وقد جاز له اقتحام متن الخطر فيما جوز فيه الخطأ فإذا جاز ذلك فلا بأس بفوات الامكان كيف ولا يقدر كل زمن مدبر لا مال له على أن يقطع الف فرسخ ليسأل عن مسألة فقهية واقعة كيف ولو قطعها فكيف يزول ظنه بإمامكم المعصوم وان شافهه به إذ لا معجزة له على صدقه فبأي وجه يثق بقوله وكيف يزول ظنه به ثم يقول لا خلاص له عن احتمال الخطأ ولكن لا ضرر عليه وغاية ما في هذا الباب ان يكون في درك الصواب مزية فضيلة والإنسان في جميع مصالحه الدنيوية من التجارة والحرب مع العدو والزراعة يقول على ظنون فلا يقدر على الخلاص من إمكان الخطأ فيه ولا ضرر عليه بل لو أخطأ صريحا في مسألة شرعية فليس عليه ضرر بل الخطأ في تفاصيل الفقهيات معفو عنه شرعا بقوله ﷺ من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله اجر واحد فما هولوا من خطر الخطأ مستحقر في نفسه عند المحصلين من أهل الدين وانما يعظم به الأمر على العوام الغافلين عن أسرار الشرع فليس الخطأ في الفقهيات من المهلكات في الآخرة بل ليس ارتكاب كبيرة موجبا لتخليد العقاب ولا للزومه على وجه لا يقبل العفو أما المجتهدات فلا مأثم على من يخطئ فيها والحنفي يقول يصلي المسافر ركعتين والشافعي يقول يصلي أربعا وكيفما فعل في فالتفاوت قريب ولو قدر فيه خطأ فهو معفو عنه فإنما العبادات مجاهدات ورياضات تكسب النفوس صفاء وتبلغ في الآخرة مقاما محمودا كما أن تكرار المنفعة لما يتعلمه يجعله فقيه النفس ويبلغه رتبة العلماء ومصلحته تختلف بكثرة التكرار وقلته ورفعه صوته فيه وخفضه فإن اخطأ في الاقتصار على التكرار لدرس واحد مرتين وكانت الثلاث أكثر تأثيرا في نفسه في علم الله تعالى أو أخطأ في الثلاث وكان الاقتصار على الاثنين أكثر تأثيرا في صيانته على التبرم المبلد أو أخطأ في خفض الصوت وكان الجهر اوفق لطبعه وللتأثير في تنبيه نفسه أو كان الخفض أدعى له إلى التأمل في كنه معناه لم يكن الخطأ في شئ من ذلك في ليلة أو ليال مؤيسا عن رتبة الإمامة ونيل فقه النفس وهو في جميع ما يخمن ويرتب في مقادير التكرار من حيث الكمية والكيفية والوقت مجتهد فيه وظان وسالك إلى طريق الفوز بمقصوده ما دام مواظبا على الأصل وان كان قد تيقن له الخطأ احيانا في التفاصيل وانما الخطر في التغليط والاعتراض والاغترار بالفطنة الفطرية ظنا بان فيها غنية عن الاجتهاد كما ظن فريق من الباطنية ان نفوسهم زكية مرتاضة مستغنية عن الرياضات بالعبادات الشرعية فاهملوها وتعرضوا بسببها للعقاب الاليم في دار الآخرة فليعتقد المسترشد ان إفضاء المجاهدات الشرعية إلى المقامات المحمودة السنية في دار الآخرة كإفضاء الاجتهاد في ضبط العلوم والمواظبة عليها إلى مقام الأئمة وعند هذا نستحقر ما عظم الباطنية الأمر فيه من خطر الخطأ على المجتهدين في الجهر بالبسملة وتثنية الإقامة وأمثالها فالتفاوت فيه بعد المواظبة على الأصول المشهورة كالتفاوت في الجهر بالتكراراو الخفض به من غيرفرق وكيف وقد نبه الشرع على تمهيد عذر المخطئ فيه كما تواتر ذلك من صاحب الشرع. هذا تمام الكلام على المقدمة الثانية.
وأما المقدمة الثالثة وهي قولهم إذا ثبت وجوب معرفة الحق فلا يخلو إما أن يعرفه الإنسان من نفسه أو من غيره فهذه مقدمة صادقة لا نزاع فيها نعم المجادلة عليها بما يفحم الباطنية ويمنعهم من استعمالها كما ذكرنا في المقدمة الأولى وهي جارية في كل مقدمة صادقة.
وأما المقدمة الرابعة وهي قولهم إذا بطلت معرفته من نفسه بطريق النظر ثبت وجوب التعلم من غيره فهذه صادقة على تقدير بطلان النظر وتسليم معرفة الحق ولكنا لا نسلم بطلان النظر كما سبق وكما سنذكر في إفساد شبههم المزخرفة لإبطال النظر ولا نسلم وجوب معرفة الحق لأن من جملته ما بنا مندوحة عنه والمحتاج إليه معرفة الصانع وصدق الرسول والناس قد اعتقدوها سماعا وتقليدا لابويهم وفي ذلك ما يغنيهم فلا حاجة بهم إلى استئناف تعلم من معلم معصوم فإن قنعوا بالتعليم من الأبوين فنحن نسلم حاجة الصبيان في مبدأ النشوء إلى ذلك ولا ننكره ولا مستروح لهم في هذا التسليم ومن هذه المقدمة قولهم إذا ثبتت الحاجة إلى المعلم فليكن المعلم معصوما وهذا متنازع فيه فإن المعلم أن كان يعلم ويذكر معه الدليل العقلي وينبه على وجه الدلالة ليتأمل المتعلم فيه بمبلغ عقله ويجوز له الثقة بمقتضى عقله بعد تنبيه المعلم فليكن المعلم لو أفسق الخليقة فلم يحتاج إلى عصمته وليس يتلقف المتعلم منه تقليد ما يتلقفه بل هو كالحساب لا بد من معرفة الحق فيه لمصالح المعاملات ولا يعرفه الإنسان من نفسه ويفتقر إلى معلم ولا يحتاج إلى عصمته لانه ليس علما تقليدا بل هو برهاني وان زعمتم أن المتعلم ليس يتعلم بالبرهان والدليل لأن ذلك يدركه بنظر عقله ولا ثقة بعقله مع ضعف عقول الخلق وتفاوتها فلذلك يحتاج إلى معصوم فهذا الآن حماقة لانه إما ان يعرف عصمته ضرورة أو تقليدا ولا سبيل إلى دعوى شئ منه فلا بد ان يعرفه نظرا إذ لا شخص في العالم يعرف عصمته ضرورة أو يوثق بقوله مهما قال أنا معصوم وإذا لم يعرف عصمته كيف يقلده وإذا لم يثق بنظره كيف يعرف عصمته فان كان الأمر كما ذكرتموه فقد وقع الناس عن تعلم الحق وصار ذلك من المستحيلات فإذا قالوا لا بد من تعلم الحق لا بطريق النظر كان كمن يقول لا بد من الجمع بين البياض والسواد لانه ان تعلم من غيره بتأمل دليل المسألة التي يتعلمها كان ناظرا مقتحما خطر الخطأ وإن قلده لكونه معصوما كان مدركا عصمته بالنظر في دليل العصمة وان لم يعتقد العصمة ويعلم ممن كان فقد رجع الأمر بالآخرة إلى ما استبعدوه وهو التعلم ممن لم تعرف عصمته وفيهم كثرة واقوالهم متعارضة كما ذكروه وهذا لا مخلص عنه أبد الدهر.
وأما المقدمة الخامسة وهي قولهم إن العالم لا يخلو إما أن يشتمل على ذلك المعصوم المضطر إليه أو يخلو عنه ولا وجه لتقدير خلو العالم عنه فان ذلك يؤدي إلى تغطية الحق وذلك ظلم لا يليق بالحكمة فهو أيضا مقدمة فاسدة لانا إن سلمنا سائر المقدمات وسلمنا ضرورة الخلق إلى معلم معصوم فنقول لا يستحيل خلو العالم عنه بل عندنا يجوز خلو العالم عن النبي أبدا بل يجوز لله ان يعذب جميع خلقه وان يضطرهم إلى النار فانه بجميع ذلك متصرف في ملكه بحسب إرادته ولا معترض على المالك من حيث العقل في تصرفاته وانما الظلم وضع الشيء في غير موضعه والتصرف في غير ما يستحقه المتصرف وهذا لا يتصور من الله فلعل العالم خال عنه على معنى ان الله لم يخلقه.
فإن قيل مهما قدر الله على ارشاد الخلق إلى سبيل النجاة ونيل السعادات بعثة الرسل ونصب الأئمة ولم يفعل ذلك كان إضرارا بالخلق مع انتفاء المنفعة عن الله تعالى في هذا الإضرار وهو في غاية القبح المناقض لأوصاف الكمال من حكمته وعدله ولا يليق ذلك بالصفات الإلهية قلنا هذا الكلام مختل وغطاء ينخدع به العامي ويستحقره الغواص في العلوم وقد انخدع به طوائف من المعتزلة واستقصاء وجه الرد عليهم في فن الكلام وانا الآن مقتصر على مثال واحد يبين قطعا أن الله تعالى ليس يلزمه في نعوت كماله ان يرعى مصلحة خلقه وهو أنا نفرض ثلاثة من الاطفال مات أحدهم طفلا وبلغ أحدهم مسلما ثم مات وبلغ الآخر وكفر ثم مات فيجازي الله كل أحد بما يستحقه فيكون مقيما للعدل فينزل الذي بلغ وكفر في دركات لظى والذي بلغ واسلم في درجات العلا والذي مات طفلا من غير إسلام ومقاساة عبادة بعد البلوغ في درجة دون درجة الذي بلغ واسلم فيقول الذي مات طفلا يا رب لم اخرتني عن اخي المسلم الذي بلغ ومات ولا يليق بكرمك إلا العدل وقد منعتني من مزايا تلك الرتبة ولو انعمت علي بها لانتفعت بها ولم تضرك فكيف يليق بالعدل ذلك فيقول له بزعم من يدعي الحكمة انه بلغ واسلم وتعب وقاسى شدائد العبادات فكيف يقتضي العدل التسوية بينك وبينه فيقول الطفل يا رب انت الذي احييته وامتنى وكان ينبغي ان تمد حياتي وتبلغني إلى رتبة الاستقلال وتوفقني للآسلام كما وفقته فكان التأخير عنه في الحياة هو الميل عن العدل فيقول له بزعم من يدعي الحكمة كانت مصلحتك في إماتتك في صباك فإنك لو بلغت لكفرت واستوجبت النار فعند ذلك ينادى الكافر الذي مات بعد بلوغه من دركات لظى فيقول يا رب قد عرفت مني أني إذا بلغت كفرت فهلا امتني في صباي فإني قانع بالدرجة النازلة التي انزلت فيها الصبي المتشوق إلى درجات العلا وعند هذا لا يبقى لمن يدعي الحكمة في التسوية إلا الانقطاع عن الجواب والاجتراء وبهذا التفاوت يستبين أن الأمر أجل مما يظنون فان صفات الربوبيه لا توزن بموازين الظنون وان الله يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وبهذا يستبين انه لا يجب بعث نبي ولا نصب امام فقد بطل قولهم انه لا بد أن يشتمل العالم عليه.
وأما المقدمة السادسة وهي قولهم إذا ثبت ان المعصوم موجود في العالم فلا يخلو إما ان يصرح بالدعوى ويدعي العصمة أو يخفيه وباطل اخفاؤه لأن ذلك واجب عليه والكتمان معصية تناقض العصمة فلا بد أن يصرح بها فهذه مقدمة فاسدة لانه لا يبعد إلا يصرح به لكونه محفوفا بالأعداء مستششعرا في نفسه خائفا على روحه فيخفي ذلك تقية وذلك مما اتفقوا على جوازه واليه ذهبت الإمامية باجمعهم وزعموا ان الإمام حي قائم موجود والعصمة حاصلة له ولكنه يتربص تصرم دولة الباطل وانقراض شوكة الاعداء وإنما هو الآن متحصن بجلباب الخفاء حارس نفسه عن الهلاك لصيانة السر عن الإفشاء إلى ان يحضر أوانه وينقرض امام الباطل وزمانه فما جواب هؤلاء الباطنية عن مذهب الإمامية وما الذي يمنع احتمال ذلك فانهم ساعدوهم على جميع مقدماتهم إلا على هذه المقدمة وذلك لما شاهدوا من اختلال حال من وسمه هؤلاء بالعصمة وتحققوا من الأسباب المناقضة للورع والصيانة فاستحيوا من دعوى العصمة لمن يشاهدون من أحواله نقيضها فزعموا ان المعصوم مختف وانا ننتظر ظهوره في اوانه. وعند هذا نقول بم عرفت الباطنية بطلان مذهب الإمامية في هذه القضية فان عرفوها ضرورة فكيف قام الخلاف في الضروريات وان عرفوها نظرا فما الذي اوجب صحة نظرهم دون نظر خصومهم وتزكية عقولهم دون عقولهم أيعرف ذلك بطول اللحى أو ببياض الوجه وهلم جرا إلى عين المسلك الذي نهجوه وهذا لا محيص عنه بحال من الأحوال.
وأما المقدمة السابعة وهي قولهم إذا ثبت ان المعصوم لا بد أن يصرح فإذا لم يكن في العالم إلا مصرح واحد كان هو ذلك المعصوم لانه لا خصم له ولا ثاني له في الدعوى حتى يعسر التمييز فهذه فاسدة من وجهين أحدهما انهم بماذا عرفوا انه لا مدعي للعصمة ولا مصرح بها في أقطار العالم سوى شخص واحد فلعل في أقصى الصين أو في أطراف المغرب من يدعي شيئا من ذلك وانتفاء ذلك مما لا يعرف ضرورة ولا نظرا فان قيل يعرف ذلك ضرورة إذ لو كان لانتشر لان مثل هذا تتوافر الدواعي على نقله قلنا يحتمل انه كان ولم ينتشر إلى بلادنا مع بعد المسافة لان المدعي له ليس يتمكن من ذكره إلا مع سوسه وصاحب سره وحوله جماعة من اعدائه فيفزع من إظهار السر وإفشائه ويرى المصلحة في اخفائه أو هو مفش له ولكن المستمعين له ممنوعون عن الانتشار في البلاد واخبار العباد به لانهم محاصرون من جهة الاعداء مضطرون إلى ملازمة الوطن خوفا من نكاية المستولين عليهم فما الذي يبطل هذا الاحتمال وهو أمر قدر قريبا أو بعيدا فهو ممكن ليس من قبيل المحالات وانتم تدعون القطع فيما توردون فكيف يصفو القطع مع هذا الاحتمال.
الوجه الثاني في إفساد هذه المقدمة هو أنكم ظننتم أنه لا يدعي العصمة في العالم سوى شخص واحد وهو خطأ فإنا بالتواتر نتسامع بمدعيين أحدهما في جيلان فانها لا تنفك قط عن رجل يلقب نفسه بناصر الحق ويدعى لنفسه العصمة وانه نازل منزلة الرسول ويستعبد الحمقى من سكان ذلك القطر إلى حد يقطعهم جوانب الجنة مقدرا بالمساحة ويضايق في بعضهم إلى حد لا يبيع دراعا من الجنة لا بمائة دينار وهم يحملون إليه ذخائر الأموال ويشترون منه مساكن في الجنة فهذا أحد الدعاة فبم عرفتم انه مبطل وإذ قد تعدد المدعي ولا مرجح إذ لا معجزة فلا تظنوا ان الحماقة مقصورة عليكم وان هذه الكلمة لا ينطق بها لسان غيركم بل التعجب من ظنكم ان هذه الحماقة مقصورة عليكم في الحال أكثر من العجب في أصل هذه الحماقة فأما المدعي الثاني فرجل في جزائر البصرة يدعي الربوبيه وقد شرع دينار ورتب قرآنا ونصب رجلا يقال له على بن كحلا وزعم انه بمنزلة محمد ﷺ وانه رسوله إلى الخلق وقد احدق به طائفة من الحمقى زهاء عشرة الاف نفس ولعله يزيد عددهم على عددكم وهو يدعى لنفسه العصمة وما فوقها فما جوابكم عن رجل من الشاباسية يسوق هذه المقدمات إلى هذه المقدمة ثم يقول إذا لم يكن بد من معلم معصوم ولا معجزة للمعصوم وانما يعرف بالدعوى وصاحب الباطنية لا يدعي الربوبيه كيف وصاحب الشاباسية يدعي الربوبيه فأتباعه اولى فان قلتم من يدعي الربوبيه يعرف بطلان قوله ضرورة فالجواب من وجهين أحدهما أنه إنما يدعى ذلك بطريق الحلول ويزعم ان ذلك توارث في نسبهم وقد استمر ذلك في بيتهم عصرا طويلا والمدعي الآن كان جده مدعيا لذلك. والحلول قد ذهب إليه طوائف كثيرة فليس بطلان مذهب الحلولية ضروريا فكيف يكون ضروريا وفيه من الخلاف المشهور ما لا يكاد يخفى حتى مال إلى ذلك طائفة كبيرة من محققي الصوفيه وجماعة من الفلاسفة واليه اشار الحسين بن منصور الحلاج الذي صلب ببغداد حيث كان يقول أنا الحق أنا احق وكان يقرأ في وقت الصلب وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم واليه أشار أبوزيد البسطامي بقوله سبحاني سبحاني ما أعظم شأني وقد سمعت انا شيخا من مشايخ الصوفية تعقد عليه الخناصر ويشار إليه بالأصابع في متانة دين وغزارة علم حكى لي عن شيخه المرموق في الدين والورع انه قال ما تسمعه من أسماء الله الحسنى التي هي تسعة وتسعون كلها يصير وصفا للصوفي السالك بطريقه إلى الله وهو يعد من جملة السائرين إلى الله لا من زمرة الواصلين وكيف ينكر هذا وعليه مذهب النصارى في اتحاد اللاهوت بناسوت عيسى عليه السلام حتى سماه بعضهم إلها وبعضهم ابن الإله وبعضهم قالوا هو نصف الإله واتفقوا على أنه لما قتل انما قتل منه الناسوت دون اللاهوت كيف وقد تخيل جماعة من الروافض ذلك في علي رضي الله عنه وزعموا أنه الإله وكان ذلك في زمانه حتى أمر باحراقهم بالنار فلم يرجعوا وقالوا بهذا يبين صدقنا في قولنا أنه الإله لأن رسول الله ﷺ قال لا يعذب بالنار إلا ربها فبهذا يبين ان بطلان هذا المذهب ليس بضروري ولكنه ضرب من الحماقة ويعرف بطلانه بالنظر العقلي كما يعرف بطلان مذهبهم فإذا قد بطل قولهم لا مدعي للعصمة سوى صاحبنا بل قد ظهر من يدعي العصمة وزيادة.
الوجه الثاني في الجواب عن قولهم ان بطلان مذهبهم معلوم ضرورة ولا فرق بين ما يعرف بطلانه ضرورة وبين ما يعرف بطلانه مشاهدة أو تواترا وعدم العصمة فيمن ادعيتم عصمته معلوم بمشاهدة ما يناقض الشرع من وجوه اولها جمع الأموال واخذ الضرائب والمواصير واستئداء الخراجات الباطلة وهو الأمر المتواتر في جميع الأقطار ثم الترفه في العيش والإستكثار من أسباب الزينة والإسراف في وجوه التجمل واستعمال الثياب الفاخرة من الإبريسم وغيرها وعدالة الشهادة فتحرم بعشر عشر ذلك فكيف العصمة فان أنكروا هذه الأحوال أنكروا ما شاهده خلق كثير من تلك الأقطار وتواتر على سانهم إلى سائر الأمصار ولذلك لا ترى لاحد من أهل تلك البلاد اغترارا وانخداعا بهذه التلبيسات لمشاهدتهم ما يناقضها ومن وجوه حيلهم أنهم لا يبثون الدعوة إلا في بلاد نائية يحتاج المستجيب إلى قطع مسافة شاسعة لو اعترضت له ريبة فيها حتى تدفعه العوائق عن النهضه والرحلة فإنهم لو شاهدوا لانكشف لهم عوار تلك التلبيسات المزخرفة والحيل الملفقة.
أما المقدمة الثانية وهي قولهم إذا بان ان المدعى للعصمة مهما كان واحدا وقع الاستغناء عن الاستدلال على كونه معصوما فصاحبنا إذا هو المدعى للعصمة وحده فإذا هو الإمام المعصوم فهذه مقدمة نكذبهم فيها ولا نسلم ان صاحبهم يدعى لنفسه العصمة فانا لم نسمعه البته ولم يتواتر الينا من لسان من سمعه منه بل انما سمع ذلك من آحاد دعاتهم وليسوا معصومين ولاهم بالغون حد التواتر ولو انهم بلغوا حد التواتر فلا يحصل العلم بقولهم وخبرهم لوجهين أحدهما ان المشافهين لهذه الدعوة من جهة صاحبهم قليل فانه محتجب لا يظهر إلا للخواص ثم لا يشافه بالخطاب إلا خواص الخواص ثم لا يفشي هذه الدعوة إلا مع خاص من جملة خواص الخواص فالذين يسمعون عنه لا يبلغون عدد التواتر وان بلغوا فكلهم إن انتشروا لم يكن في بلدة منهم إلا واحد وأكثر البلاد أيضا يخلو عن آحادهم.
الوجه الثاني أنهم وإن بلغوا حد التواتر فقد فقد شرط التواتر في خبرهم إذ شرط ذلك الخبر إلا يتعلق بواقعة ينتشر التواطؤ فيها من طائفة كبيرة لمصلحة جامعة لهم كما يتعلق بالسياسات فان أهل معسكر واحد قد يجمعهم غرض واحد فيحدثون على التطابق بشئ واحد ولا يورث ذلك العلم ورب واحد أو اثنين يخبر عن أمر فيعلم أنه لا يجمعهما غرض فيحصل له العلم وهؤلاء الدعاة لعلهم قد تواطئوا على هذا الاختراع ليتوصلوا به إلى استتباع العوام واستباحة أموالهم فيتوصلون بها إلى أمالهم وعلى الجملة فحسن الظن بصاحبهم يقتضي تكذيبهم فإنهم لو حدثوا بذلك عن مريض في دار المرضى لاعتقدنا كذبه إلا ان يعتقد الجنون في ذلك المريض إذ لا يدعي عاقل العصمة عن المحرمات وتناول المحظورات مع مشاهدة أهل العلم تناوله لها ومباشرته لها فاقل آثار العقل الحياء عن فضيحة الاجتراء ومن تحلى بغير ما هو فيه وكان ذلك جليا ظاهرا لمن يتأمل فيه استدل به على اختلال عقله فإذا ليس يبين لنا صدقهم في نسبتهم هذه الدعوة إلى صاحبهم وهي مقدمتهم الاخيرة.
فإن قيل لو أنكر الناس في أطراف العالم في عصر رسول الله ﷺ صدق الدعاة من رسول الله وقالوا لانصدقكم في قولكم إن محمدا يدعي الرسالة بل لا يظن بعقله ذلك ماذا كان يقال لهم قلنا بئس ما شبهتم الملائكة بالحدادين إذ لا مساواة فإنه ﷺ كان ظاهرا بنفسه وأشياعه مبرزا للقتال مترددا في الأقطار مظهرا للدعوة على ملأ من الناس غير محتجب ولا متسستر ثم كان يظهر المعجزات الخارقة للعادة فانتشرت دعوته لانتشار خروجه ومقاتلته وانتتشار وجوده وليس الآن في صاحبكم كذلك نعم تواتر وجوده وترشحه مع آبائه للخلافة ودواعهم انهم اولى بها من غيرهم اما دعواه ودعوى من سبق من آبائه العصمة على المعاصي وعن الخطأ والزلل والسهو ومعرفة الحق في جميع أسرار العقليات والشرعيات فلم يظهر ذلك لنا بل لم تظهر دعواه العلم اصلا بفن من الفنون كالفقه أو الكلام أو الفلسفة على الوجه الذي يدعيه آحاد العلماء في البلاد فكيف ظهرت دعواه معرفة أسرار النبوة والاطلاع على علوم الدنيا والآخرة وهذا ما تواطأ على اختراعه توصلا إلى استدراج المستجيب وخداعه.
هذا تمام الرد عليهم في المقدمات تفصيلا مع أن في المنهج الأول المنطوي على الرد عيهم جملة كافية ومقنعا. ولم يبق إلا القول في إفساد أدلتهم المذكورة لإبطال النظر.
أما الدلالة الأولى وهي قولهم من صدق عقله فقد كذبه إذ صدق عقل خصمه وخصمه يصرح بتكذيبه فنقول هذا تخييل باطل من وجوه الأول المعارضة بمثال وهو أنا نقول نحن صدقنا العقول في نظرياتها وانتم صدقتموها في ضرورياتها وخصومكم من السوفسطائية يكذبونكم فيها فإن إقتضى ذلك لزوم الاعتراف بكذب العلوم الضرورية لزمنا من خلافكم الاعتراف بكذب العلوم النظرية فان العقل إن صدق في الضروريات فما بال عقل السوفسطائية كذب وما الفرق بين عقلكم وعقلهم أفتقولون ان ذلك منهم حماقة وسوء مزاج قلنا وكذلك حالكم في إنكار النظريات وهو كمن ينكر الحسابيات من العلوم فانه لا يشككنا في البراهين الحسابية وان كان البليد لا يفهم ومنكر النظر اصلا يجحده ولكن طريقنا معه أن نورد عليه المقدمات وهي ضرورية فإذا أدركها ادرك النتيجة فكذلك خصمنا إذا كذبنا في مسألة من المسائل كإنكار ثبوت واجب الوجود عرضنا عليه مقدمات القياس الدالة عليه وقلنا أتماري في قولنا لا شك في أصل الوجود أو في قولنا ان كل موجود إما جائز واما واجب ام في قولنا ان كان واجبا فقد ثبت واجب الوجود ام في قولنا إن كان جائزا فكل جائز مستند إلى واجب الوجود في آخر الأمر لا محالة وإذا لم يمكنه التشكك في المقدمات لم يمكنه التشكك في النتيجة وانما يختلف الناس فيها لان الفطرة غير كافية في تعريف الترتيب لهذه المقدمات بل لا بد من تعلمها من الافاضل وذلك الفاضل لا بد ان يكون تعلم أكثرها أو إستأثر باستنباط بعضها وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى معلم معصوم هو نبي موحى ايه من جهة الله تعالى هكذا تكون العلوم كلها فان زعموا أنكم اعترفتم بالحاجة إلى المعلم ومن لم يعترف فهو معاند للمشاهدة فالافتقار إليه معترف به ولكنه كالافتقار إليه في علم الحساب فانه لا يحتاج فيه إلى معصوم إذ لا تقليد فيه ولكن يحتاج إلى حاسب ينبه على طريق النظر فإذا تننبه المعلم ساوى المعلم في العلم الضروري المستفاد من المقدمات بعضها على بعض ولا شك في أن معلم الحساب أيضا يعلم أكثر مما يعلم وان استقل باستنباط ترتيب البعض وكذا القول في معلم المعلم إلى ان ينتهي مبدأ العلم الحسابي إلى نبي من الانبياء مؤيد بالوحي والمعجزة ولكن بعد إفاضة الله علم الحساب فيما بين الخلق استغنى في تعلمه عن معلم معصوم فكذلك العلوم العقلية النظرية ولا فرق.
الاعتراض الثاني ان يقال لهم أنكرتم من خصومكم تصديق العقل في نظره واخترتم تكذيبه فبماذا تعرفون الحق وتميزون بينه وبين الباطل أبضرورة العقل ولا سبيل إلى دعواها أو بنظره فتضطرون إلى الرجوع إلى النظر فقد صدقتموه إذا بعد تكذيبه فتناقض كلامكم فان قلتم نحن نأخذه من الإمام المعصوم قلنا وبم تعرفون صدقه فان قلتم لانه معصوم قلنا وبم تعرفون عصمته فان قلتم بضرورة العقل لم يخف عليكم خزيكم وعرفتم في الباطن من أنفسكم خلاف ما أظهرتم فان عصمة رسول الله ﷺ مع معجزته لم تعرف بضرورة العقل حتى أنكر رسالته طوائف بل أنكر بعثة الرسل جميع البراهمة وانكر الاكثرون من المسلمين عصمة الانبياء واستدلوا بقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} إلى غير ذلك مما اشتمل القرآن على حكايته من أحوال الانبياء فإذا لم تعرف عصمة صاحب المعجزة ضرورة فكيف تعرف عصمة صاحبكم ضرورة فان قيل نحن نعرفه بالنظر ولكن النظر تعلم منه والنظر ينقسم إلى صحيح وفاسد وتمييز صحيحه على فاسده ممتنع عن كافة الخلق إلا على الإمام الحق فهذا الميزان الموضح للفرقان بين الشبهه والبرهان فقد عرفنا صحة النظر الذي استفدنا منه فاطمأنت نفوسنا إليه بتزكيته وتعليمه قلنا والنظر الذي علمكموه هل افتقرتم في فهمه إلى تأمل ام هو مدرك على البديهة فان ادعيتم البديهة فما أشد جهلكم إذ يرجع حاصله إلى أن معرفة عصمته عرفت بالبديهة وهو كذب صريح وان افتقرتم إلى التأمل فذلك التأمل يعرف بالعقل ام لا ولا بد أن يقال إنه بالعقل فنقول والعقل إذا قضى عند التأمل بقضية فهو صادق ام لا فان قالوا لا فلم صدقوه وان قالوا نعم هو صادق فقد ابطلوا اصل مذهبهم وهو قولهم ان العقول لا سبيل إلى تصديقها فان قيل الإمام يعرف من بواطن أسرار الله أمورا إذا ذكرها حصل للمتعلم عند سماعها علم بديهي ضروري بصدقة ويستغنى به عن تدقيق النظر والتأمل فنقول ورسول الله ﷺ هل عرف ذلك ام لا فان قلتم لا فقد فضلتم الخليفة على الاصل وان قلتم نعم فلم اخفاها وهلا اظهرها وافشاها حتى كانت العقول تضطر على البديهة إلى ذكرها وكانت تتسارع إلى التصديق له في دعاويه ولم ترك طوائف الخلق مضطربين في مغاصات الشبه متعثرين في أذيال الضلالات مجاهدين بأموالهم وانفسهم في نصرة الخيالات الباطلة كيف وانتم إذا تعلمتم من إمامكم ذلك وقدرتم على ذكره حتى يعرف بالبديهة صدقه فتلك الدقيقة لماذا اخفيت ولأي يوم أجلت وكتمان الدين من أكبر الكبائر ثم كيف انقسم المستمعون فنون ضلالكم إلى قائل مستمع وراد ومنخدع ومنتبهه وهلا اسلك الكل في ربقة التصديق والانقياد وعلى الجملة فدعوى مثل هذا الكلام لا تدل إلا على الوقاحة وقلة الحياء والا فنحن بالضرورة نعلم انكم على البديهة لم تدركوا صدق امامكم وعصمته ولكنكم ربما تضطرون في تمشية التلبيس إلى خلع جلباب الحياء وكذلك يفعل الله بذوي الضلال والامراء فنعوذ بالله من سقطة الأغبياء فما هذه الكذبة الصادرة منكم قولة تتقال أو عثرة تقال أو خدعة يسبق اليها الجهال فضلا عن أفاضل الرجال.
الاعتراض الثالث وهو أن نقول للمسترشد مثلا إذا شك في صحة النظر واستدل بالاختلاف المجمل ينبغي ان تعين المسألة التي تشك فيها فان المسائل منقسمة إلى ما لا يمكن ان يعلم بنظر العقل والى ما يمكن ان يعلم علما ظنيا والى ما يعلم علما يقينيا ولا معنى لقبول السؤال المجمل بل لا بد من تعيين المسألة التي فيها الاشكال حتى يكشف الغطاء عنها وينبه السائل على أن المخالف فيها جهل وجه ترتيب المقدمات المنتجة له ونحن لا ندعي الآن المعرفة إلا في مسئلتين احداهما وجودالصانع الواجب الوجود المستغني عن الصانع والمدبر والثانية صدق الرسول ويكفينا في باقي المسائل ان نتلقاها تقليدا من الرسول ﷺ فهذا القدر الذي لا بد منه في الدين وباقي العلوم لا يتعين تحصليها بل الخلق مستغنون عنها وان كان ذلك ممكنا كالعلوم الحسابية والطبية والنجومية والفلسفية وهاتان المسألتان نعرفهما يقينا اما ثبوت واجب الوجود فبالمقدمات التي عرفناها واما صدق الرسول فبمقدمات تماثلها ومن احاط بها لم يشك فيها وعلم غلط المخالف منها كما يعلم غلط المحاسب في الحساب وخصومنا أيضا مضطرون أى معرفة هاتين المسألتين بالنظر والا فقول النبي لا يغني فيهما فيكف يغني فيهما قول المعصوم فإن قيل معرفة صفات الله ومعرفة الشرائع ومعرفة الحشر والنشر كل ذلك لا بد منه فمن اين يعرف قلنا يتعلم من النبي ﷺ المعصوم المؤيد بالمعجزة ونصدقه فيما يخبر عنه كما تقلدون انتم صاحبكم الذي لا عصمة له ولا معجزة فان قيل وبم تفهمون كلامه قلنا بما نفهم به كلامكم هذا في اسئلتكم وتفهمون كلامنا في اجوبتنا وهو معرفة اللغة وموضوع الألفاظ كما تفهمون انتم من المعصوم عندكم فان قيل ففي كلام الرسول وفي القرآن المشكلات والمجملات كحروف أوائل السور والمتشابه كأمر القيامة فمن يطلعكم على تأويله والعقل لا يدل عليه قلنا للآلفاظ الشرعية ثلاثة اقسام ألفاظ صريحة لا يتطرق اليها الاحتمال فلا حاجة فيها إلى معلم بل نفهمها كما تفهمون أنتم كلام المعلم المعصوم إذ لو اقتصر صريح كلام الشارع أى معلم ومؤول لاقتصر صريح كلام المعلم المعصوم إلى مؤول ومعلم آخر ولتسلسل إلى غير نهاية.
الثاني ألفاظ مجملة ومتشابهة كحرووف اوائل السور فمعانيها لا يمكن ان تدرك بالعقل إذ اللغات تعرف بالاصطلاح ولم يسبق اصطلاح من الخلق على حروف التهجي وان الر وحم عسق عبارة عماذا فالمعصوم أيضا لايفهمه وانما يفهم ذلك من الله تعالى إذا بين المراد به على لسان رسوله فيفهم ذلك سماعا وذلك لا يخلو إما أن لم يذكره الرسول لانه لا حاجة إلى معرفته ولم يكلف الخلق به فالمعصوم شريك في انه لا يعرفه إذ لم يسمعه من الرسول وان عرفه وذكره فقد ذكر ما بالخلق مندوحة عن معرفته فانهم لن يكلفوه وان ذكره الرسول فقد اشترك في معرفته من بلغه الخبر متواترا كان أو آحادا وفيه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين نقل فإن كان متواترا افاد علما وإلا افاد ظنا والظن فيه كاف بل لا حاجة إلى معرفته فانه لا تكليف فيه واما وقت القيامة فلم يذكره الله تعالى ولا ذكره رسلوه عليه السلام وانما يجب التصديق بأصل القيامة وولا يجب معرفة وقتها بل مصلحة الخلق في إخفائها عنهم ولذلك طوى منهم فالمعصوم من أين عرف ذلك الكلام ولم يذكره الله ولا رسوله ولا مجال لضرورة العقل ولا لنظره في تعيين الوقت ثم لنقدر انه عرف ذلك وزعم انه ﷺ ذكره سرا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكره كل امام مع سوسه فأي فائدة للخلق فيه وهو سر لا يجوز ان يذكر إلا مع الأئمة فإن ذكره معصومكم وأفشى هذا السر الذي أمر الله تعالى بكتمانه إذ قال تعالى أكاد اخفيها كان معاندا لله ورسوله وان كان لا يفشيه فكيف يتعلم منه ما لا يجوز تعليمه فدل على أن الأمور العقلية محتاجة إلى التعليم ولكن المعلم أن كان ينبه على طريق النظر فيه فلا يشترط عصمته وان كان يقلد من غير دليل فلا بد أن تعرف بالمعجزة عصمته وهو النبي وناهيك به معلما فلا حاجة إلى غيره.
القسم الثالث الألفاظ التي ليست مجملة ولا صريحة ولكنها ظاهرة فانها تثير ظنا ويكتفى بالظن في ذلك القبيل والفن وسواء كان ذلك في الفقهيات وأمور الآخرة أو صفات الله فليس يجب على الخلق إلا أن يعتقدوا التوحيد والألفاظ فيه صريحة وأن يعتقدوا أنه قادر عليم سميع بصير ليس كمثله شيء وكل ذلك اشتمل القرآن عليه وهو مصرح به أما النظر في كيفية هذه الصفات وحقيقتها وأنها تساوي قدرتنا وعلمنا وبصرنا أم لا فقوله ليس كمثله شيء دال على نفي المماثلة لسائر الموجودات وهذا قد اكتفى من الخلق به فلا حاجة بهم إلى معصوم نعم الناظر فيه والمستدل عليه بالأدلة العقلية قد يتوصل إلى اليقين في بعض ما ينظر فيه وإلى الظن في بعضه ويختلف ذلك باختلاف الذكاء والفطنة واختلاف العوائق والبواعث ومساعدة التوفيق في النظر والعارف يذوق اليقين وإذا تيقن لم يتمار فيه ولم يشككه قصور غيره عن الدرك وربما تضعف نفسه ويشككه خلاف غيره ز كل ذلك لا مضرة له لأنه ليس مأمورا به والمعصوم لا يغنى عنه شيئا لو تابعه فإن محض التقليد لا يكفيه وإن ذكر وجه الدليل فذلك لا يختلف صدوره عن معصوم أو غيره كما سبق.
وأما الدلالة الثانية وهي قو لهم إذا جاءكم مسترشد متحير وسألكم عن العلوم الدينية أفتحيلونه على عقله ليستقل بالنظر وهو عاجز أو تأمرونه باتباعكم في مذهبكم وينازعكم المعتزلى والفلسفي وكذا سائر الفرق فبماذا يتميز مذهب عن مذهب وفرقة عن فرقة فالجواب من وجهين الأول هو أنا نقول لهم لو جاءكم متحير في أصل وجود الصانع وصدق الأنبياء انقلب عليكم هذا الإشكال فماذا تقولون إن ذكرتم دليلا عقليا لم نثق بنظره وإن رددتموه إلى عقله فكمثل فعساكم تشفون غليله بالحوالة على المعصوم فما أبرد هذا الشفاء فإنه يقول قدروني قد جئت مسترشدا في زمان محمد بن عبد الله ومعه معجزته فمعصومكم لا يقدر على معجزة أو قدروا إني شاهدت معصومكم قلب العصا ثعبانا أو أحيا الموتى أو أبرأ الأكمة والأبرص وأنا أشاهده فلا يبين لي صدقه بضرورة العقل ولا أثق بالنظر وكم من أصناف الخلائق شاهدوا ذلك وأنكروه فحمله بعضهم على السحر والمخرقة وبعضهم على غيره فلعلكم تشبعون غصته بان تقولوا له قلد الإمام المعصوم ولا تسأل عن السبب فيقول ولم لا اقلد المخالفين لكم في إنكار النبوة والعصمة وهل بينهما فرق من طول لحية أو بياض وجه إلى غير ذلك مما هذوا به وهذا قلب لو اجتمع أولهم مع آخرهم على الخلاص منه دون الأمر بالتفكر والنظر في الدليل لم يجدوا إليه سبيلا.
الجواب الثاني وهو التحقيق هو أنا نقول للمسترشد ماذا تطلب فإن كنت تطلب العلوم كلها فما اشد فضولك واعظم خطبك وأطول أملك فاشتغل من العلوم ما يهمك وان قال اريد ما يهمني قلنا ولا مهم إلا معرفة الله ورسوله وهذا معنى قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله فهاتان مسألتان يسهل علينا تعليمك اياهما وعند ذلك ذكر له المقدمات الضرورية التي ذكرناها في إثبات واجب الوجود ثم مثلها في دلالة المعجزة على صدق الرسول فإن زعم أن خلاف المخالفين هو الذي يشككني في هذه المعرفة أفأتبعكم أو أتبع مخالفيكم فنقول له لا تتبعنا ولا تتبع مخالفينا فان تعلم طريق التقليد مباح والتقليد في النتيجة غير موثوق به فشكك في أي مقدمة من مقدماتنا أفي قولنا إن أصل الوجود معترف به فان كان كذلك فعلاجك في دار المرضى فإن هذا من سوء المزاج فان من شك في أصل الوجود فقد شك أولا في وجود نفسه وإن قلت لا أشك في هذا بخلاف السوفسطائية قلنا فقد تيقنت مقدمة واحدة فهل تشك في الثانية وهي قولنا ان كان هذا الوجود واجبا فقد ثبت واجب الوجود فنقول هذا أيضا ضروري قلنا فهل تشك في قولنا إن كان جائزا فلا يتخصص أحد طرفي الجواز من الطرف المماثل له إلا بمخصص فهذه أيضا مقدمة ضرورية عند من يدرك معنى اللفظ وإن كان فيه توقف فالتوقف في درك مراد المتكلم من لفظه فان قال نعم لا شك فيه قلنا فذلك المخصص المفتقر إليه إن كان جائزا فالقول في ذلك لا كالقول فيه فيفتقر إلى مخصص غير جائز وهو المراد بواجب الوجود ففيماذا تتشكك فإن قال قد بقي لي شك عرف به بلادته وسوء فهمه وقطع الطمع عن رشده وليس هذا بأول بليد لا يدرك الحقائق فنخليه وهو كمن يطلب علم الحساب فذكرنا له الغوامض من مقدمات الحساب من الشكل (القطاع) الذي هو في آخر كتاب إقليدس فلم يفهمه لبلادته بل في الشكل الأول الذي مضمونه إقامة البراهين على مثلث متساوي الأضلاع فلم يدركه عرفنا ان مزاجه ليس يحتمل هذا العلم الدقيق فليس كل خلقه يحتمل العلوم بل الصناعات والحرف فهذا لا يدل على فساد هذا الأصل فإن قال المسترشد لست أشك في هذه المقدمات ولا في النتيجة ولكن لم يخالفكم من يخالفكم قلنا لجهله ترتيب هذه المقدمات أو لعناده أولبلادته وينكشف الغطاء بأن نشافه واحدا منهم يميل إلى الإنصاف ونراجعه في هذه المقدمات حتى يتبين لك أنه بين أن يفهم ويصف ويعترف أو لا يفهم لبلادته أو يمنعه التعصب والتقليد عن حسن الإصغاء إليه فلا يدركه وعند ذلك يطلع على خطئه وكذلك يصنع به في كل مسألة وينظر فيه إلى ما تحتمله حاله ويقبله ذكاؤه وفطنته ولا يحمله مالا يطيقه بل ربما يقنعه بما يورث له إعتقادا في الحق مصمما فإن أكثر عوام الخلق قنع منهم الشرع بذلك ولا يكشف له عن وجه البراهين فربما لا يفهمها.
وأما الدلالة الثالثة وهي قولهم الوحدة دليل الحق والكثرة دليل الباطل ومذهب التعليم تلزمه الوحدة ومذهبكم تلزمه الكثرة إذ لا تزال الفرقة المخالفة للتعليم يكثر اختلافهم ولا تزال الفرقة ألقابلة للتعليم يتحد طريقهم.
فالجواب من وجوه أحدها المعارضه والاخر الإبطال والثالث التحقيق أما المعارضة فتقول والصائرون إلى الافتقار إلى معلم معصوم اختلفوا في ذلك المعصوم فقالت الإمامية إنه ليس بظاهر وليس يعرف عينه ولكن أخفى نفسه تقية وقال آخرون ليس موجودا ولكنه منتظر الوجود وسيوجد إذا احتمل الزمان إظهار الحق ولو كان يحتمل الزمان إظهاره لوجد فانه لا فائدة في كونه موجودا مع تعذر الإظهار للتقية وقال آخرون في بعض الخلفاء الذين مضوا لسبيلهم إنهم أحياء وسيظهرون في أوانه واختلفوا في تعيينه حتى اعتقد فريق ان الملقب بالحاكم هو حي بعد وقال آخرون ذلك في غيره إلى نوع من الخبط طويل فان قيل هؤلاء جماعة من الحمقى غير معدودين في زمرتنا فإذا ضممتموهم الينا وجمعتم بيننا وبينهم تطرقت الكثرة الينا فلم تجمعون الينا من يخالفنا كما يخالفكم بل الإنصاف أن تنظروا الينا وحدنا ونحن لا تختلف كلمتنا اصلا قلنا ونحن أيضا إذا إعتبرنا وحدنا فنحن لا نخالف أنفسنا وقد يرد هذا الاعتراض لا محالة من يعتقد مذهبا في جميع المسائل لا يخالف نفسه ومعه جماعة من الخلق يوافقونه في معتقده في الجميع فإذا اعتبرتموه مع فرقته ولم تجمعوا اليهم من يخالفهم فبالحماقة والبلادة وقصور النظر ألفيت كلمتهم متحده فلا يدل على أن الحق فيهم فإن قلتم وبم عرفتم حماقة مخالفيكم انقلب ذلك عليكم من مخالفتكم القائلين بوجوب التعليم من المعصوم وإن زعمتم ان القائلين بأن النظر صحيح فرقة واحدة وإن اختلفوا في تفاصيل المذهب قلنا والقائلون بأن الإمام المعصوم لا بد منه فرقة واحدة وإن اختلفوا في التفصيل هذا ولا محيص عنه أبد الدهر.
الجواب الثاني وهو أنا نقول قولكم الوحدة أمارة الحق والكثرة أمارة الباطل باطل في الطرفين فرب واحد باطل ورب كثير لا ينفك عن الحق فإناإذا قلنا العالم حادث أو قديم فالحادث واحد والقديم واحد فقد اشتركا في لزوم الوحدة وانقسما في الحق والباطل وإذا قلنا الخمسة والخمسة عشرة ام لا فقولنا لا نفي واحد كقولنا عشرة إثبات واحد ثم اختلفا فكان أحدهما حقا والآخر باطلا فإن قلتم إن قولكم عشرة لا يمكنكم ان تقسم وتفصل إلا بواحد وقولكم لا يفصل بالتسعة والسبعة وسائر الاعداد ففيه الكثرة قلنا ولزوم الكثرة في مثل هذا التفصيل لا يدل على البطلان فإنا إذا عمدنا إلى جسمين متقاربين قلنا إنهما متساويان ام لا فقولنا متساويان واحد وهو باطل ولا يمكن ان يفصل إلا بواحد وقولنا لا إذ قلنا متفاوتان حق وهو واحد ويقبل التفصيل بما ينقسم إلى الحق والباطل إذ يقال هذا الجسم مفاوت لذلك الجسم أي هو أكبر أو يفسر بأنه أصغر والحق أحدهما والباطل يقابله في كونه واحدا وفي مشاركته في الاندراج تحت لفظ واحد هو حق يدل على أن ما ذكروه تلبيس.
الجواب الثالث عن قولهم إن الكثرة أمارة الباطل فمذهبنا واحد لا كثرة فيه وانما الكثرة في الأشخاص الذين اجتمعوا على مسألة ثم افترقوا في مسائل فلم قابلوا هذا بكثرة في جواب المسألة وهو في قولنا كم الخمسة والخمسة بل ورأيه في المذهب أن يفتي في مسألة واحدة بفتاوي كثيرة متناقضة فعند ذلك يقال الكثرة دليل الباطل ولسنا نفتي في كل مسألة إلا بواحد فإنا نقول الله واحد ومحمد ﷺ رسوله وهو صادق ومؤيد بالمعجزة فهذه فتوى واحدة فلتكن حقا وان كان باطلا فهو موافق لمذهبهم وقولنا ان نظر العقل طريق يوصل إلى درك ما لا يدرك اضطرارا مذهب واحد لا كثرة فيه فليكن حقا كما أن قولنا العلوم الحسابية علوم صادقة قول واحد وكان حقا وليتعجب من ابعادهم في التلبيس إذ أخذوا لفظة الكثرة وهي لفظة مضافة مشتركة تارة يراد بها الكثرة في الأجوبة عن مسألة واحدة كالجواب عن الخمسة والخمسة والسبعة والستة وغيرها وتارة تطلق ويراد كثرة الأشخاص المتفقين في مذهب والمختلفين فيه فرأوا مفارقة الباطل للكثرة المضافة إلى عدد الاجوبة في مسألة واجدة فاستدلوا به على بطلان قول واحد في مسألة واحدة اجتمع عليها جماعة كثيرة اختلفت كلمتهم في مسائل سوى تلك المشكلة لكن هذا وان كان تلبيسا بعيدا عن المحصل فمقصود واضعه التلبيس على العوام وذلك مما يتوقع رواجه فالحيلة على العوام في استدراجهم ليست ممتنعة على جماعة من الحمقى قد ادعوا الربوبيه فكيف تتعسر عن غيرها واما قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فهو من هذا الطراز في التلبيس فإن المراد به تناقض الكلمات في المتكلم الواحد إذا تناقض كلامه فسد ونحن لم يتناقض كلام الواحد منا في مسألة بل اجتمع طائفة على مسألة وهي إثبات النظر كما اجتمع طائفة على التعليم وإثباته ثم اختلفوا في مسائل اخرى فأين هذا من اختلاف الكلام الواحد.
فإن قيل المتعلمون إذا اجمعوا على التعليم وعلى معلم واحد وأصغوا بأجمعهم إليه لم يكن بينهم خلاف وإن كانوا ألف ألف قلنا والناظرون إن اجمعوا على النظر في الدليل وعلى تعيين دليل واحد في كل مسألة ووقفوا عليها لم يتصور بينهم خلاف فإن قلتم فكم من ناظر في ذلك الدليل بعينه قد خالف قلنا وكم من مصغ إلى معلمكم وقد خالف فان قلتم لانه لم يصدقه في كونه معصوما قلنا ولأن الناظر لم يعرف هذا وجه دلالة الدليل فان قلتم ربما يعرف وجه الدلالة ثم ينكر قلنا هذا لا يتصور إلا عنادا كما يعتقد واحد كون الإمام المعصوم حقا ثم يخالفه فلا يكون ذلك إلا عن عناد ولا فرق بين المسلكين.
وأما الدلالة الرابعة وهي قولهم ان كان لا يدرك الناظر المساواه بينه وبين خصمه في الاعتقاد فلم يدرك المساواه بين حالتيه وكم من مسألة اعتقدها نظرا ثم تغير اعتقاده فيم يعرف ان الثاني ليس كالأول قلنا يعرف ذلك معرفة ضرورية لا يتمارى فيها وهذا معتقدكم أيضا في مثالين ولا كلام أقوى من القلب والمعارضه في مثل هذه المقالات فان عادتهم مد يد الاعتصام إلى إشكالات لا تختص بمذهب فريق فيحيرون عقول العوام به ويخيلون انه من خاصة مذهب مخالفيهم والعامي المسكين متى ينتبه لانقلاب ذلك عليه في مذهبه فنقول هذا القائل اعتقد مذهب التعليم وإبطال النظر تتقليدا سماعا من أبويه أو سمع من الأبوين مذهبا ثم تنبه بعد ذلك لبطلانه فإن قال اعتقدته سماعا من الأبوين قلنا وأولاد النصارى واليهود المجوس وأولاد مخالفيكم في مسألة النظر وقع نشوؤهم على خلاف معتقدكم فبماذا تفرقون به بين أنفسكم وبينهم أبطول اللحى أو سواد الوجوه أم بسبب غيره والتقليد شامل وإن قلتم لا بل اعتقدنا مذهبكم ثم تركنا التقليد وتنبهنا لصحة مذهب التعليم قلنا تنبهتم لبطلان مذهبنا على البديهة أو بنظر العقل فإن كان على البديهة فكيف خفي عليكم البديهي في أول امركم وعلى أبائكم وعلينا ونحن العقلاء وقد طبقنا وجه الارض ذات الطول والعرض وان عرفتم ذلك بنظركم فلم وثقتم بالنظر ولعل حالكم اللاحقة كالحال السابقة فما الفارق فإن قلتم عرفنا من المعلم قلنا إن كان تقليدا فما الفرق بين التقليد للأخير والتقليد للأول وبين تقليدكم وتقليد طوائف المخالفين من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وان فهمتم بالنظر فما الفرق بينكم وبين سائر النظار وهذا مما لا جواب عنه إلا أن يقال بالضرورة ندرك التفرقة بين ماعلم يقينا لا يمكن فيه الخطأ وبين ما يمكن فهكذا جوابنا.
المثال الثاني إن من غلط في مسألة حسابية ثم تنبه لها هل يتصور ان يزول شكه بعد التنبيه نجيب يعلم انه ليس مخطئا وأن الخطأ غير جائز عليه وانما كان الخطأ فيما تقدم لمقدمة شذت عنه فإن قلتم لا فقد أنكرتم المشاهدة وإن قلتم نعم فبماذا تدرك التفرقة إلا بالضرورة وقد انقلب الإشكال بعينه وكيف تنكر ذلك وقد رأيت من يدعي الذكاء والفطنه في علم الحساب حكم بأن التيامن في القبلة واجب ببلد نيسابور وأنه لا بد من الميل عن محرابها المتفق عليه إلى اليمين واستدل عليه بمقدمة مسلمة وهي ان الشمس تقف وسط السماء على سمت الرأس بمكة في اطول النهار وقت الزوال ثم قال ترى الشمس في اطول النهار وقت الزوال بنيسابور مائلة قليلا إلى يمين المستقبل في محاربها فيعلم انه على سمت رأس الواقف بمكة وأن مكة مائلة إلى اليمين فتابعه على ذلك جماعة من الحساب واعتقدوا ان ذلك هو الواجب بحكم هذا الدليل حتى تنبهوا على محل الغلط فيه وإحلالهم بمقدمة اخرى وهي أن ذلك انما يلزمه لو كان وقت الزوال بنيسابور هو وقت الزوال بمكة وليس كذلك بل يقع بعد ساعة وتكون الشمس قد أخذت إلى صوب المغرب في جانب اليمن عرضا فيرى وقت الزوال مائلا عن قبلة نيسابور لانه ليس وقت الزوال والغروب في جميع المواضع متفقا ويعرف ذلك باختلاف ارتفاع القطبين وانخفاضهما بل باستتارهما وانكشافهما في البقاع المختلفة فهذا الغلط وامثاله في الحساب أفيدل ذلك على أن النظر في الحساب ليس طريقا موصلا إلى معرفة الحق أو يتشكك المتنبه بعدها فيقول لعله شذت عني مقدمة أخرى وأنا غافل عنها كما في الأول هذا لو فتح بابه فهو السفسطة المحضة وندعو ذلك إلى بطلان العلوم والاعتقادات كلها فكيف يبقى معه وجوب التعلم ومعرفة العصمة ومعرفة إبطال النظر.
أما الدلالة الخامسة وهي قولهم ان صاحب الشرع ﷺ قال الناجي من الفرق واحدة وهم أهل السنة والجماعة ثم قال ما أنا الآن عليه وأصحابي فهذا من عجيب الاستدلالات فانهم أنكروا النظر في الأدلة العقلية لاحتمال الخطأ فيه وأخذوا يتمسكون بأخبار الآحاد والزيادات الشاذة فيها فأصل الخبر من قبيل الآحاد وهذه الزيادة شاذة فهو ظن على ظن ثم هو لفظ محتمل من وجوه التأويل ما لا حصر له فإن ما كان عليه هو وأصحابه إن اشترط جميعه في الأقوال والأفعال والحركات والصناعات كان محالا وإن أخذ بعضه فذلك البعض من يعينه ويقدره وكيف يدرك ضبطه وهل يتصور ذلك إلا بظن ضعيف وربما لا يرتضى مثله في الفقهيات مع خفة أمرها فكيف يستدل على القطعيات بمثلها على أنا نقول هم كانوا على اتباع نبي مؤيد بالمعجزة فلستم إذن من الفرقة الناجية فإنكم اتبعتم من ليس هو نبيا ولا مؤيدا بالمعجزة فسيقولون ليس تجب مساواته من كل وجه قلنا فنحن على مساواتهم من كل وجه فإنا نأمر باتباع الكتاب والسنة والاجتهاد عند العجز عن التمسك بهما كما أمر معذا به وكما استمر عليه الصحابة بعد وفاته من المشاورة والاجتهاد في الأمور فالحديث قاض لنا بالنجاة ولكم بالهلاك فإنكم إنحرفتم عن اتباع النبي المعصوم إلى غيره فان قيل ومعاني الكتاب والسنة كيف تفهمونها قلنا قد بينا أنها ثلاثة اقسام صريحة وظاهرة ومجملة وبينا لأن معرفتنا لها كمعرفة سائر الصحابة وكمعرفة من تدعون له العصمة من غير فرق فان قيل وانتم تدعون إلى نظر العقل وما كان هذا من دأب الصحابة قلنا هيهات فإنا ندعو إلى الاتباع وإلى تصديق رسول الله ﷺ في قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فمن صدق بذلك سبقا إليه من غير منازعة ومجادلة قنعنا منه كما يقنع رسول الله ﷺ به من أجلاف العرب والناس على ثلاثة أقسام قسم هم العوام المقلدون نشئوا على اعتقاد الحق سماعا من آبائهم فهم مقرون عليه بصحة إسلامهم، الثاني الكفار الذين نشئوا على ضد الحق سماعا عن آبائهم وتقليدا فهم مدعوون عندنا إلى تقليد النبي المعصوم المؤيد بالمعجزة واتباع سنته وكتابه وأنتم تدعونه إلى معصومكم فليت شعري أينا أشبه بصحابة رسول الله ﷺ أمن يدعو إلى النبي المؤيد بالمعجزة أم من يدعو إلى من يدعى العصمة بشهوته من غير معجزة القسم الثالث من فارق حيز المقلدين وعرف ان في التقليد خطر الخطأ فصار لا يقنع به فنحن ندعوه إلى النظر في خلق السموات والأرض ليعرف به الصانع والى التفكر في معجزات النبي ﷺ ليعرف به صدقة وانتم تدعونه إلى تقليد المعصوم وتكذبون نظر العقل وتزخرفونه فليت شعري أي الدعوتين اوفق لدعوة أصحاب رسول الله ﷺ فمتى قالوا للمسترشد المتشكك إياك ونظر العقل وتأمله فإن فيه خطر الخطأ ولذلك اختلف الناظرون. بل عليك ان تقلد ما تسمعه منا من غير بصيرة وتأمل هذا لو صدر من مجنون لضحك منه ولقيل له لم نقلدك ولا نقلد من يكذبك فإذا طوى بساط الدليل المفرق بطريق النظر بينك وبين خصمك ولم يمكن درك التفرقة بالضرورة فبم تميز عن مخالفك المكذب فليت شعري من فتح باب النظر الذي يسوق إلى معرفة الحق متبعا فيه ما اشتمل عليه القرآن من الحث على التدبر والتفكر في الايات وفي القرآن وعجز الخلق عن الإتيان بمثله واستدلاله به هو أقرب إلى موافقة الصحابة وأهل السنة والجماعة أو من يؤيس الخلق عن النظر في الأدلة بالتكذيب حتى لا يبقى للدين عصام يتمسك بنه إلا الدعاوي المتعارضه وهل هذا إلا صنع من يريد ان يطفئ نور الله ويغطي شرع رسول الله صلى اللهس عليه وسلم بسد طريقه المفضى إليه فان قيل فنراكم تميلون تارة إلى الاتباع وتارة إلى النظر قلت هكذا تعتقده ولكنه في حق شخصين فالذين سعدوا بالولادة بين المسلمين فأخذوا الحق تقليدا مستغنون عن النظر وكذا الكفار إذا تيسر لهم تصديق رسول الله ﷺ تقليدا كما كان يتيسر لاجلاف العرب والذي يتشكك ويعرف غرر التقليد فلا بد له من معرفة صدقنا في قولنا لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم بعد هذا قدر على اتباع رسول الله ﷺ ولن يعرف التوحيد والنبوة إلا بالنظر في دليله الذي دل عليه الصحابة ودعا الرسول الخلق به فانه ما دعاهم بالتحكم المحض والقهر المجرد بل بكشف سبل الأدلة. فهذا صورة القول مع كل متشكك وإلا فليبرز الباطني معتقده في حقه وانه كيف ينجو عن شكه إذا حسم عليه باب التأمل والنظر.
فهذا حل هذه الشبهات وهي أرك عند المحصل من أن يفتقر في حلها إلى كل هذا الإطناب ولكن اغترار بعض الخلق به وظهور التلبيس في هذا الزمان يتقاضى هذا الكشف والإيضاح والله تعالى يوفقنا للعلم والعمل والرشد والإرشاد بمنه ولطفه.
الباب السابع في إبطال تمسكهم بالنص في إثبات الإمامة والعصمة
وفيه فصلان.
الفصل الأول في تمسكهم بالنص على الإمامة
وقد عجزت طائفة منهم عن التمسك بطريق النظر لمناقضة ذلك مسلكهم في إبطال نظر العقل وإيجاب الإتباع فعدلوا إلى منهج الإمامية بحيث استدلوا على إمامة علي رضي الله عنه بالنص وزعموا أنها مطردة في عترته فطمع هؤلاء في التمسك بالنص مع مخالفة مذهبهم مذهب الإمامية فزعموا انه عليه السلام نص على علي ونص علي على ولده حتى انتهى إلى الذي هو الآن متصد للإمامة بكونه منصوصا عليه ممن كان قبله وهذا غير ممكن لهذه الفرقة فإنهم بين التعلق فيه بأخبار آحاد لا تورث العلم ولا تفيد اليقين وثلج الصدر بل يحتمل فيه تعمد الكذب تارة والغلط فيه اخرى.
ولمنهج هؤلاء اجتووا طرق النظر في العقليات احترازا عما فيها من الخطأ فكيف يستتب لهم التمسك بأخبار الآحاد فيضطرون إلى دعوى خبر متواتر فيه من صاحب الشرع صلوات الله عليه تجري في الوضوح مجرى الخبر المتواتر في بعثته ودعوته وتحديه بالنبوة وشرعه الصلوات الخمس والحج والصوم وسائر الوقائع المستفيضة ومهما راجع العاقل بصيرته استغنى في معرفة استحالة هذه الدعوى عن مرشد يرشده ويسدد منهجه على وجه الاستحالة كيف وقد استحالت هذه الدعوى وتعذرت على الامامية في دعوى إمامة علي فقط فكيف تستتب لهؤلاء دعوى إمامة صاحبهم مع تضاعف الشغل عليهم وكثرة دعاويهم إلى أن ينساقوا إلى إثبات الإمامة لمن إعتقدوا إمامته اليوم ولكنا مع الاستغناء عن الايضاح لفساد دعواهم ننبه على ما فيه من العسر والاستحالة ونقول مدعي الإمامة اليوم لشخص معين من عترة رسول الله ﷺ يفتقر إلى نص متواتر عن رسول الله على علي رضي الله عنه ينتهي في الوضوح إلى حد الخبر المتواتر عن وجود علي ومعاوية وعمرو بن العاص فإنا بالتواتر عرفنا وجودهم ومهما ادعى تواتر هذا الخبر في زمان رسول الله ﷺ افتقر إلى حد التواتر بعده في كل عصر ينقرض حتى لا يزال النقل متواترا على تناسخ الأعصار وانقراض القرون بحيث يستوي في بلوغ المخبرين حد التواتر طرف الخبر وواسطته وهذا ممتنع يفتقر في كل واحد من علي وأولاده رضي الله عنه إلى يومنا هذا أربعة أمور الأول أن يثبت أنه مات عن ولده ولم يمت أبتر لا ولد له حتى يعرف ولده كما عرف علي رضي الله عنه وتعرف صحة انسابهم كما عرف صحة انساب علي الثاني أن يثبت أن كل واحد منهم نص على ولده قبل وفاته وجعله ولي عهده وعينه من بين سائر أولاده فانتصب للإمامة بتوليته ولم يمت واحد إلا بعد التنصيص والتعيين على ولي عهده الثالث ان ينقل أيضا خبرا متواترا انه ﷺ جعل نص جميع أولاده بمنزلة نصه في وجوب الطاعة ومصادفته لمنظنة الاستحقاق ووقوعه على المستحق للمنصب من جهة الله تعالى حتى لا يتصور وقوع الخطأ لواحد منهم في التعيين الرابع أن ينقل أيضا بقاء العصمة والصلاح للإمامة من وقت نصه على من نص عليه إلى ان توفي هو بعد نصه على غيره فلو انخرمت رتبة من هذه الرتب لم تستمر دعاويهم ولو اثبتوا تواتر نص كل واحد منهم ووجود ولده في العصر الأول فلا يغنيهم حتى يثبتوا تواتره كذلك في سائر الأعصار المتوالية بعده عصرا بعد عصر وهذه أمور لو ثبت التواتر فيها لعلمت كما يعلم وجود الانبياء ووجود الأقطار التي لم تشاهد كالصين وقيروان المغرب ووجود الوقائع كحرب بدر وصفين ولا يشترك الناس في دركه حتى كان لا يقدر أحد على أن يشكك فيه نفسه وليس يخفى أن الأمر في هذه الدعاوى بالضد إذ لو كلف الإنسان ان يتسع لتجويز ما قالوه وإمكانه لم يتمكن بل علم قطعا خلافه فكيف يتصور الطمع في إثباته وكيف يتواقحون على دعواه وقد اختلف القائلون بوجوب الإمام المعصوم في جماعة من الأئمة بزعمهم انه خلف ولدا أو لم يخلف واختلفوا في تعيين الإمامة في بعضهم واختلفوا في ظهوره فقال قائلون الإمام موجود ولكنه ليس يظهر تقية وقال آخرون هوظاهر فكيف خالفهم أصحابهم وان كانوا قد عرفوا ذلك بنص متواتر فكيف قبلوه من الآحاد ان لم يكن متواتر وقول الآحاد لا يورث إلا الظن فاستبان ان ما ذكروه طمع في غير مطمع وفزع إلى غير مفزع ومثالهم في الفرار من مسلك النظر إلى مسلك النص مثال من يميل من البلل إلى الغرق فإن المسلك الأول أقرب إلى التلبيس من هذا المسلك.
فإن قال قائل قد طولتم الأمر عليهم وأحرجتموهم إلى إثبات النص على علي ثم إثبات النص من كل واحد من أعقابه ولدا ولدا ثم صحة نسبه ثم استفاضة هذه الأخبار أولا ووسطا وآخرا وهم يستغنون عن جميع ذلك بخبر واحد وهو أن رسول الله ﷺ قال الإمامة بعدي لعلي وبعده لأولاده لا تخرج من نسبي ولا ينقطع نسبي أصلا ولا يموت واحد منهم قبل توليته العهد لولده. وهذا القدر يكفيهم قلنا نعم يكفيهم هذا القدر إن كان كل ما يخطر بالبال ويوافق شهوة الضلال يمكن اختراعه ونقله متواترا ولكن هذا على هذا الوجه لم يقع ولا نقل ولا إدعى مدع وقوعه معتقدا بالباطل ولا على سبيل العناد فضلا عن أن ينطق به عن الإعتقاد ونقل هذا النص ودعوى التواتر فيه كدعوى من نقل مضاده وهو أن الإمامة ليست لعلي بعدي وإنما هي لابي بكر وانما تكون بعده بالاختيار والشورى وان من ادعى النص أو اختصاص الإمامة بأولاده من سائر قريش فهو كاذب مبطل فكما نعلم أن هذا الخبر لم يكن ولم ينقل لاآحادا ولا تواترا نعلم ذلك فما يناقضه ومهما فتح باب الاختراع اشترك في الاقتدار عليه كل من يحاول اللجاج والنزاع وذلك مما لا يستحله ذوو الدين أصلا.
فإن قال قائل هذه الدعاوي لا تستتب لهؤلاء فهل تستتب للإمامية في دعوى النص على علي رضي الله عنه قلنا لا انما الذي يستتب لهم دعوى ألفاظ محتملة نقلها الآحاد فأما اللفظ الذي هو نص صريح فلا ودعوى التواتر أيضا لا يمكن وتيك الألفاظ كما رووا أنه قال من كنت مولاه فعلي مولاه وقوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلى غير ذلك من الألفاظ المحتملة لا تجري مجرى النصوص الصريحة فأما دعوى النص الصريح المتواتر فمحال من وجوه موضع استقصائها في كتاب الإمامة من علم الكلام وليس من غرضنا الآن ولكنا نذكر استحالته بمسلكين أحدهما انه لو كان ذلك متواتر لما شككنا فيه كما لم يشك في وجود علي رضي الله عنه ولا في انتصابه للخلافة بعد رسول الله ﷺ ولا في أمر رسول الله ﷺ بالصلاة والصيام والزكاة والحج فان قوله عليه السلام في التنصيص على الخلافة بعده على ملأ من الناس ليس قولا يستحقر فيستر ولا يتساهل في سماعه فيهمل بل تتوفر الدواعي على اشاعته ولا تسمح النفوس بإخفائه والسكوت عنه ولم تسمح بالسكوت عن أخبار وأحوال تقع دون ذلك في الرتبة فهذا قاطع في بطلان دعواهم الخبر المتواتر وعلى هذه الجملة فلا تتميز دعواهم عن دعوى البكرية حيث قالوا إن النبي ﷺ نص على أبي بكر رضي الله عنه نصا صريحا متواترا ولا عن دعوى الروندية إذ قالوا إنه نص على العباس نصا متواترا وهذه الأقاويل متعارضة لانها لم تعرف ولم تظهر بعد وفاة رسول الله ﷺ عند الخوض في الإمامة. فلا تبقى بعد ذلك ريبة في بطلان هذه الدعوى.
المسلك الثاني أن الذين نازعوا في إمامة أبي بكر وتصدوا للنضال عن علي رضي الله عنهما تمسكوا في نصرته بألفاظ محتملة نقلها آحاد كقوله عليه السلام من كنت مولاه فعلي مولاه وقوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى. وكيف سكتوا عن النص المتواتر الذي لا يتطرق التأويل إلى متنه والطعن على سنده ومعلوم ان النفوس في مثل هذه المثارات تضطرب بأقصى الإمكان ولاتتعلق بالشبه إلا عند العجز عن البرهان فهذا أيضا يعرف المنصف ضرورة كذب المخترعين لهذه الأمور وإنما هداهم إلى اختراع دعوى النص المتواتر طائفة من الملحدين أرادو الطعن على الدين وهم الذين لقنوا اليهود أن ينقلوا عن موسى نصا بانه خاتم النبين وانه قال لليهود عليكم بالسبت ما دامت السموات والارضون وكان سسبيلنا في الرد عليهم ان اليهود مع ما جرى عليهم من الذل والإرقاق والسبى للذراري والأولاد وتخريب البلاد وسفك الدماء في طول زمان رسول الله ﷺ كانوا يحتالون بكل حيلة في طمس شريعته وتطفئة نوره ودفع استيلائه فلم لم ينقلوا عن موسى عليه السلام ذلك ولم لم يقولوا له ما جئت إلا بتصديق موسى وانه قال أنا خاتم النبين ومعلوم ان الدواعي تتوافر على نقل مثل ذلك توافرا لا يطاق السكوت معه وقد كان فيهم الأحبار والمتقدمون وكلهم كانوا مضطرين تحت القهر والذل متعطشين إلى دفع حجته بأقصى الجد وهذا بعينه هو الذي يكشف عن اختراع هؤلاء وتهجمهم على الإختلاق والتخرص.
فإن قيل لعله تمسك به المتمسكون إلا أنه اندرس ولم ينقل إلينا قلنا كيف نقل إلينا التمسك بالألفاظ الظاهرة ونقل المنازعة في الإمامة من الأنصار وقول قائلهم أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب والدواعي على نقل النص أوفر ولو جاز فتح هذا الباب لجاز لكل ملحد إذا احتججنا عليه بالقرآن وعجز الخلق عن معارضته وبينا به صدق محمد ﷺ أن يقول لعله عورض ولكنه لم ينقل وتعاطى المسلمون إخفاءه. فإن قيل أنتم مضطرون إلى معرفة هذا الخبر المتواتر ولكنكم تعاندون في إخفائه تعصبا قلنا ولم تنكرون على من يقلب عليكم ويقول انتم تعرفون بطلان ما ينقلون ضرورة ولكنكم تعاندون في الإختراع وبم تنفصلون عن البكرية والروندية إذا ادعوا ذلك في النص على أبي بكر والعباس رضي الله عنهما فإن قيل ألستم تدعون في معجزات الرسول ﷺ انشقاق القمر وكلام الذئب وحنين الجذع وتكثير الطعام القليل إلى غير ذلك مما أنكره كافة الكفار وطوائف من المسلمين ولم يكن خلافهم مانعا لكم من دعوى التواتر قلنا نحن لا ندعي التواتر الذي يوجب العلم الضروري إلا في القرآن أما ما عداه من هذه المعجزات فلو نقلها خلق كثير بلغوا حد التواتر لما تصوروا الشك فيها وانما نقلها جماعة دون تلك الكثرة يعرف صدقهم بضروب من الأدلة النظرية والاستدلال بالقرائن الخالية من رواتيهم ذلك وسكوت الآخرين عن الإنكار إلى غير ذلك من الأمور التي يتوصل إلى استفادة العلم منها عند إمعان النظر فيها بدقيق الفكر ومن أعرض عن النظر في تيك الدلائل والقرائن ولم يتأملها حق التأمل لم يحصل له العلم وأما انتم فلا تقنعون في خبركم بالنقل من عدد دون عدد التواتر ولا بالحاجة فيه إلى النظر والاستدلال والتأمل فانكم تبطلون طرق النظر فلا تستقيم هذه المقابلة منكم فان قيل انشقاق القمر من الآيات العلوية والبراهين السماوية فكيف يتصور ان يختص بمشاهدته عدد دون عدد التواتر قلنا ولو شاهده عدد التواتر كيف كان يتصور التردد فيه والإنكار له وهل ترى أحدا يتردد في وجود مكة ووجود أبي حنيفة والشافعي وسائر المشهورين وهي من الأمور الأرضية وهل ترى أن أحدا يتردد في أن الشمس كانت تطلع في أيام نوح عليه السلام ضربا للمثل فإن ذلك لما كان من الأمور المتواترة لم تتصور الاسترابة فيه يبقى قولكم إنه كيف اختص بمشاهدة انشقاق القمر طائفة فقد قال العلماء الأصوليون المنكرون لالتباس ما يتواتر من الأخبار هذه آية ليلية في وقت كان الناس فيه نياما أو كانوا تحت السقوف والظلال والأستار والمصحرون منهم المنتبهون لا تستحيل عليهم الغفلة في لحظة فيكون ذلك مثل انقضاض كوكب تختص بمشاهدته شرذمة قليلة وذلك ممكن فلم يكن الانشقاق أمرا دائما زمانا طويلا فليس يمتنع أن يختص بمشاهدته من حدق إليه بصره ممن كان حول رسول الله ﷺ حيث احتج على قريش بانشقاق القمر وقال قائلون أيضا يحتمل أن يكون الله تعالى خصص برؤية ذلك من حاج النبي ﷺ في تلك الساعة وناظره حيث قال ﷺ آيتي أنكم ترفعون روؤسكم فترون القمر منشقا وحجب الله أبصار سائر الخلق عن رؤيته بحجاب أو سحاب أو تسليط عقله وصرف داعية النظر لمصلحة الخلق فيه حتى لا يتحدى لنفسه بعض الكذابين في الأمصار فيستدل به على صدق نفسه أو يكون معجزة للنبي ﷺ من وجهين خارقين للعادة أحدهما إظهاره لهم والآخر اخفاؤه عن غيرهم وهذه الاحتمالات ذكرها العلماء حتى قال بعضهم ان انشقاق القمر ثبت بالقرآن وهو قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} والكلام فيه طويل وعلى الأحوال كلها فما بلغ حد التواتر لا يتصور التشكك فيه هذه قاعدة معلومة عليها تبنى جميع قواعد الدين ولولاه لما حصلت الثقة بأخبار التواتر ولما عرفنا شيئا من أقوال رسول الله ﷺ إلا بالمشاهدة والكلام في هذا يحتمل الإطناب ولكنه بعيد عن مقصود الكتاب فرأيت الإيجاز فيه أولى.
الفصل الثاني في إبطال قولهم إن الإمام لا بد أن يكون معصوما من الخطأ والزلل والصغائر والكبائر
فنقول لهم وبماذا عرفتم صحة كونه معصوما ووجود عصمته أبضرورة العقل أو بنظره أو سماع خبر متواتر عن رسول الله ﷺ يورث العلم الضروري ولا سبيل إلى دعوى الضرورة ولا إلى دعوى الخبر المتواتر المفيد للعلم الضروري لان كافة الخلق تشترك في دركه وكيف يدعي ذلك وأصل وجود الأمام لا يعرف ضرورة بل نازع منازعون فيه فكيف تعلم عصمته ضرورة وان ادعيتم ذلك بنظر العقل فنظر العقل عندكم باطل وان سمعتم من قول إمامكم أن العصمة واجبة للإمام فلم صدقتموه قبل معرفة عصمته بدليل آخر وكيف يجوز أن تعرف إمامته وعصمته بمجرد قوله.
على أنا نقول أي نظر عرفكم وجوب عصمة الإمام فلا بد من الكشف عنه فإن قيل الدليل عليه وجوب الاتفاق على كون النبي ﷺ معصوما ولم نحكم بوجوب عصمته إلا لأنا بواسطته نعرف الحق ومنه نتلقفه ونستفيده ولو جوزنا عليه الخطأ والمعصية سقطت الثقة بقوله فما من قول يصدر عنه إلا ونتصور أن يقال لعله أخطأ فيه أو تعتمد الكذب فإن المعصية ليست مستحلية عليه وذلك مما لا وجه له فكذلك الإمام منه نلتقي الحق واليه نرجع في المشكلات كما كنا نرجع إلى رسول الله ﷺ فانه خليفته وبه نستضئ في مشكلات التأويل والتنزيل وأحوال القيامة والحشر والنشر. فإن لم تثبت عصمته فكيف يوثق به قلنا مثار غلطكم ظنكم أنا نحتاج إلى الإمام لنستفيد منه العلوم ونصدقه فيها وليس كذلك فإن العلوم منقسمة إلى عقلية وسمعية أما العقلية فتنقسم إلى قطعية وظنية ولكل واحد من القطع والظن مسلك يفضي إليه ويدل عليه وتعلم ذلك ممن يعلمه ولو من افسق الخلق ممكن فانه لا تقليد فيه وانما المتبع وجه الدليل وأما السمعيات فمسندها سماع اما متواتر وإما آحاد والمتواتر تشترك الكافة في دركه ولا فرق بين الإمام وبين غيره والآحاد لا تفيد إلا ظنا سواء كان المبلغ إليه أو المبلغ الإمام أو غيره والعمل بالظن فيما يتعلق بالعمليات واجب شرعا والوصول إلى العلم فيه ليس بشرط ولذلك يجب عندهم تصديق الدعاة المنتشرين في أقطار الأرض مع أنه لا عصمة لهم أصلا وكذلك كان ولاة رسول الله ﷺ في زمانه فإذا لا حاجة إلى عصمة الإمام فإن العلوم يشترك في تحصيلها الكل والإمام لا يولد عالما ولا يوحي إليه ولكنه متعلم وطريق تعلم غيره كتعلمه من غير فرق.
فإن قيل فلماذا نحتاج إلى الإمام إذ كان يستغنى عنه في التعليم قلنا ولماذا يحتاج في كل بلد إلى قاض وهل يدل الاحتياج إليه على أنه لا بد أن يكون معصوما فيقولون انما نحتاج إليه لدفع الخصومات وجمع شتات الأمور وجزم القول في المجتهدات وإقامة حدود الله تعالى واستيفاء حقوقه وصرفها إلى مستحقيها إذ لا سبيل إلى تعطيلها ولا سبيل إلى تفويضها إلى كافة الخلق فيتزاحمون عليها متقاتلين ويتكاسلون عنها متواكلين ومتخاذلين فتعطل الأمور فجملة الدنيا في حق الإمام كبلدة واحدة في حق القاضي فكما يستغنى عن عصمة القاضي في البلد ويحتاج إلى قضائه فكذلك يستغنى عن عصمة الإمام ويحتاج إليه كما يحتاج إلى القضاة ولأمور أخر كلية سياسية من حراسة الإسلام والذب عن بيضته والنضال دون حوزته وحشد العساكر والجنود إلى أهل الطغيان والعناد وتطهير وجه الأرض عن الطغاة والبغاة والساعين في الأرض بالفساد وملاحظة أطراف البلاد بالعين الكالئة حتى إذا ثارت فتنة بادر إلى الأمر بتطفئتها وإذا نبغت نابغة تقدم عى الفور بإزالتها قبل أن تسحكم غائلتها وتستطير في الأرض نائرتها هذا وما يجري مجراه هو الذي يراد لاجله الإمام وذلك يحتاج إلى عدالة وعلم ونجدة وكفاية وصرامة وشرائط آخر سنذكرها في الباب التاسع.
فأما العصمة فيستغنى عنها كما في حق القضاة والولاة فإن منعوا وإدعوا العصمة للقضاة والولاة وكل مترشح لإمر من الأمور من جهة الإمام وهذا ما اعتقده الإمامية حتى اورد عليهم الحارس والمتعسس والبواب ويرتبط بكل واحد منهم أمر فأجابوا بأن هذه الأمور إنا كانت أمورا دينية شرطت العصمة في المتكفلين بها والمنتصب لها بنصب الإمام لا يكون إلا معصوما ونعوذ بالله من اعتقاد مذهب يضطر ناصره والذاب عنه إلى ان يجاحد ما يشاهده ويدركه على البديهة والضرورة فالظلم على طبقات الناس مشاهد من أحوال المتصبين من جهة إمامهم ولا ينفك أورع متدين منهم عن استحلال الأموال المغصوبة باسم الخراج والضريبة من أموال المسلمين العلم بتحريمه ومهما انتهى كلام الخصم إلى مجاحدة الضرورة فلا وجه إلا الكف عنه والاقتصار على تعزيته فيما اصيب به من عقله.
الباب الثامن في الكشف عن فتوى الشرع في حقهم من التفكير وسفك الدم
ومضمون هذا الباب فتاوى فقهية ونحصر مقصوده في فصول أربعة
الفصل الأول في تكفيرهم أو تضليلهم أو تخطئتهم
ومهما سئلنا عن واحد منهم أو عن جماعتهم وقيل لنا هل تحكمون بكفرهم لم نتسارع إلى التكفير إلا بعد السؤال عن معتقدهم ومقالتهم ونراجع المحكوم عليه أو نكشف عن معتقدهم بقول عدول يجوز الاعتماد على شهادتهم فإذا عرفنا حقيقة الحال حكمنا بموجبه.
ولمقالتهم مرتبتان إحداهما توجب التخطئة والتضليل والتبديع والأخرى توجب التكفير والتبري.
فالمرتبة الأولى وهي التي توجب التخطئة والتضليل والتبديع هي أن تصادف عاميا يعتقد أن استحقاق الإمامة في أصل البيت وأن المستحق اليوم المتصدي لها منهم وأن المستحق لها في العصر الأول كأن هو على رضي الله عنه فدفع عنها بغير استحقاق وزعم مع ذلك أن الإمام معصوم عن الخطأ والزلل فانه لا بد أن يكون معصوما ومع ذلك فلا يستحل سفك دمائنا ولا يعتقد كفرنا ولكنه يعتقد فينا أنا أهل البغى زلت بصائرنا عن درك الحق خطأ إذ عدلنا عن اتباعه عنادا ونكدا فهذا الشخص لا يستباح سفك دمه ولا يحكم بكفره لهذه الاقاويل بل يحكم بكونه ضالا مبتدعا فيزجر عن ضلاله وبدعته بما يقتضيه رأي الإمام فأما أن يحكم بكفره ويستباح دمه بهذه المقالات فلا وهذا انما يقتصر على تضليله وتبديعه إذ لم يعتقد شيئا مما حكينا من مذهبهم في الإلهيات وفي أمور الحشر والنشر ولكنه لم يعتقد في جميع ذلك إلا ما نعتقده وانما تميز عنا بالقدرالذي حكيناه الآن فأن قيل هلا كفر تموهم بقولهم أن مستحق الإمامة في الصدر الأول كان عليا دون أبي بكر وعمر ومن بعده وأنه دفع بالباطل وفي ذلك خرق الإجماع أهل الدين قلنا لا ننكر ما فيه من القحوم على خرق الإجماع ولذلك ترقينا من التخطئة المجردة (التي نطلقها ونقتصر عليها في الفروع في بعض المسائل) إلى التضليل والتفسيق والتبديع ولكن لا تنتهي إلى التكفير فلم يبن لنا أن خارق الإجماع كافر بل الخلاف قائم بين المسلمين في أن الحجة هل تقوم بمجرد الإجماع (وقد ذهب النظام وطائفته إلى إنكار الإجماع وأنه لا تقوم به حجة أصلا) فمن التبس عليه هذا الأمر لم نكفره بسببه واقتصرنا على تخطئته وتضليله فأن قيل وهلا كفرتموهم لقولهم أن الإمام معصوم والعصمة عن الخطأ والزلل وصغير المآثم وكبيرها من خاصية النبوة فكأنهم أثبتوا خاصية النبوة لغير النبي ﷺ قلنا هذا لا يوجب الكفر وإنما الموجب له أن يثبت النبوة لغيره بعده وقد ثبت أنه خاتم النبيين أو يثبت لغيره منصب النسخ لشريعته فأما العصمة فليست خاصية النبوة ولا إثباتها كإثبات النبوة فلقد قالت طوائف من أصحابنا العصمة لا تثبت للنبي من الصغائر واستدلوا عليه بقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} وبجملة من حكايات الأنبياء فمن يعتقد في فاسق أنه مطيع ومعصوم عن الفسق لا يزيد على من يعتقد في مطيع أنه فاسق ومنهمك في الفساد ولو اعتقد إنسان في عدل أنه فاسق لم يزد على تخطئة من اعتقد في غير معصوم أنه معصوم كيف يحكم بكفره نعم يحكم بحماقته واعتقاده أمرا يكاد يخالف المشاهد من الأحوال وأمرا لا يدل عليه نظر العقل ولا ضرورته.
فإن قيل فلو اعتقد معتقد فسق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة فلم يعتقد كفرهم فهل تحكمون بكفره قلنا لا نحكم بكفره وإنما نحكم بفسقه وضلاله ومخالفته لإجماع الأمة وكيف نحكم بكفره ونحن نعلم أن الله تعالى لم يوجب على من قذف محصنا بالزنا إلا ثمانين جلدة ونعلم أن هذا الحكم يشتمل كافة الخلق ويعمهم على وتيرة واحدة وأنه لو قذف قاذف أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بالزنا لما زاده على إقامة حد الله المنصوص عليه في كتابه ولم يدعوا لأنفسهم التمييز بخاصية في الخروج عن مقتضى العموم فإن قيل فلو صرح مصرح بكفر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ينبغي أن ينزل منزلة من لو كفر شخصا آخر من آحاد المسلمين أو القضاة والأئمة من بعدهم قلنا هكذا نقول فلا يفارق تكفيرهم تكفير غيرهم من آحاد الأمة والقضاة بل أفراد المسلمين المعروفين بالإسلام إلافي شئين أحدهما في مخالفة الإجماع وخرقه فأن مكفر غيرهم ربما لا يكون خارقا لإجماع معتد به الثاني أنه ورد في حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق أخبار كثيرة فقائل ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر لا بتكفيره إياهم ولكن بتكذيبه رسول الله ﷺ فمن كذبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع ومهما قطع النظر عن التكذيب في هذه الأخبار وعن خرق الإجماع نزل تكفيرهم منزله سائر القضاة والأئمة وآحاد المسلمين فإن قيل فما قولكم فيمن يكفر مسلما أهو كافر أم لا قلنا إن كان بعرف أن معتقده التوحيد وتصديق الرسول ﷺ إلى سائر المعتقدات الصحيحة فمهما كفره بهذه المعتقدات فهو كافر لأنه رأى الدين الحق كفرا وباطلا فأما إذا ظن أنه يعتقد تكذيب الرسول أو نفى الصانع أو تثنيته أو شيئا مما يوجب التفكير فكفره بناء على هذا الظن فهو مخطئ في ظنه المخصوص بالشخص صادق في تكفير من يعتقد ما يظن أنه معتقد هذا الشخص وظن الكفر بمسلم ليس بكفر كما أنظن الإسلام بكافر ليس بكفر فمثل هذه الظنون قد تخطئ وتصيب وهو جهل بحال شخص من الأشخاص وليس من شرط دين الرجل أن يعرف إسلام كل مسلم وكفر كل كافر بل ما من شخص يفرض إلا ولو جهله لم يضره في دينه بل إذا آمن شخص بالله ورسوله وواظب على العبادات ولم يسمع باسم أبي بكر وعمر ومات قبل السماع مات مسلما فليس الإيمان بهما من أركان الدين حتى يكون الغلط في صفاتهما موجبا للانسلاخ من الدين وعند هذا ينبغى أن يقبض عنان الكلام فإن الغوص في هذه المغاصة يفضي إلى إشكالات وإثارة تعصبات وربما لا تذعن جميع الأذهان لقبول الحق المؤيد بالبرهان لشدة ما يرسخ فيها من المعتقدات المألوفة التي وقع النشوء عليها والتحق بحكم استمرار الاعتياد بالأخلاق الغريزية التي يتعذر إزالتها وبالجملة لقول فيما يوجب الكفر والتبرى وما لا يوجبه لا يمكن استيفاؤه في أقل من مجلدة وذلك عند إيثار الاختصار فيه فلنقتصر في هذا الكتاب على الغرض المهم.
المرتبة الثانية المقالات الموجبة للتكفير
وهي أن يعتقد ما ذكرناه ويزيد عليه فيعتقد كفرنا واستباحة أموالنا وسفك دمائنا فهذا يوجب التكفير لا محالة لأنهم عرفوا أننا نعتقد أن للعالم صانعا واحدا قادرا عالما مريدا متكلما سميعا بصيرا حيا ليس كمثله شيءوأن رسوله محمد بن عبد الله ﷺ صادق في كل ما جاء به من الحشر والنشر والقيامة والجنة والنار وهذه الاعتقادات هي التي تدور عليها صحة الدين فمن رآها كفرا فهو كافر لا محالة فإن أنصاف إلى هذا شيء مما حكى من معتقداتهم من إثبات إلهين وإنكار الحشر والنشر وجحود الجنة والنار والقيامة فكل واحد من هذه المعتقدات موجب للتكفير صدر منهم أو من غيرهم فأن قيل لو اعتقد معتقد وحدانية الإله ونفى الشرك ولكنه تصرف في أحوال النشر والحشر والجنة والنار بطريق التأويل للتفصيل دون إنكار الأصل بل اعترف بأن الطاعة وموافقة الشرع وكف النفس عن المحرمات والهوى سبب يفضي إلى السعادة وأن الاسترسال على الهوى ومخالفة الشرع فيما أمر ونهى يسوق صاحبه إلى الشقاوة ولكنه زعم أنا لسعادة عبارة عن لذة روحانية تزيد لذتها على اللذة الجسمانية الحاصلة من المطعم والمنكح اللذين تشترك فيهما البهائم وتتعالى عنهما رتبة الملكية وانما تلك السعادة اتصال بالجواهر العقلية الملكية وابتهاج بنيل ذلك الكمال واللذات الجسمانية محتقرة بالإضافة إليها وأنا لشقاوة عبارة عن كون الشخص محجوبا عن ذلك الكمال العظيم محله الرفيع شأنه مع التشوق إليه والشغف به وأن ألم ذلك يستحقر معه ألم النار الجسمانية وأن ما ورد في القرآن مثله ضرب لعوام الحلق لما قصر فهمهم عن درك تلك اللذات فانه لو تعدى النبي في ترغيبه وترهيبه إلى ما ألفوه وتشوقوا إليه وفزعوا منه لم تنبعث دواعيهم للطلب والهرب فذكر من اللذات أشرفها عندهم وهي المدركات بالحواس من الحور والقصور إذ تحظى بها حاسة البصر ومن المطاعم والمناكح إذ لحظى بها القوة الشهوانية وما عند الله لعباده الصالحين خير من جميع ما اعربت عنه العبارات ونبهت عليه ولذلك قال تعالى فيما حكى عنه النبي ﷺ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وكل ما يدرك من الجسمانيات فقد خطر على قلب بشر أو يمكن إخطاره بالقلب وزعم هذا القائل أن المصلحة الداعية إلى التمثيل للذات والآلام بالمالوف منها عند العوام كالمصلحة في الألفاظ الدالة على التشبيه في صفات الله تعالى وأنه لو كشف لهم الغطاء ووصف لهم جلال الله الذي لا تحيط به الصفات والاسماء وقيل لهم صانع العالم موجود ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه ولا هو داخل فيه ولا خارج عنه وأن الجهات محصورة في ست وأنسائر الجهات فارغة منه وليس شاغلا لواحد منها فلا داخل العالم به مشغول ولا خارج العالم عنه مشغول لبادر الخلق إلى إنكار وجود فإن عقولهم لا تقوى على التصديق بوجود موجود ترده الاوهام والحواس فذكر لهم ما يشير إلى ضروب التمثيل ليرسخ في نفوسهم التصديق باصل الوجود فيسارعون إلى امتثال الأوامر تعظيما له إلى الانزجار عن المعاصي مهابة منه فيمن هذا منهاجه.
قلنا اما القول بالهين فكفر صريح لا يتوقف فيه واما هذا فربما يتوقف فيه الناظر ويقول إذا اعترفوا باصل السعادة والشقاوة وكون الطاعة والمعصية سبيلا اليهما فالنزاع في التفصيل كالنزاع في مقادير الثواب والعقاب وذلك لا يوجب تكفيرا فكذلك النزاع في التفصيل والذي نختاره ونقطع به انه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئا من ذلك لانه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرأن من اولها إلى اخرها فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوز بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يستراب وأن صاحب الشرع اراد بها المفهوم من ظاهرها فالمصير إلى ما أشار إليه هذا القائل تكذيب وليس بتاويل فهو كفر صريح لا يتوقف فيه اصلا ولذلك نعلم على القطع انه لو صرح مصرح بإنكار الجنة والنار والحور والقصور فيما بين الصحابة لبادروا إلى قتله واعتقدوا ذلك منه تكذيبا لله ولرسوله فإن قيل لعلهم كانوا يفعلون ذلك ويبالغون فيه حسما لباب التصريح به إذ مصلحة العامة تقتضي أن لا يجرى الخطاب معهم إلا بما يليق بافهامهم ويؤثر في نفوسهم واثارة دواعيهم وإذا رفعت عن نفوسهم هذه الظواهر وقصرت عقولهم عن درك اللذات العقلية أنكروا الاصل وجحدوا الثواب والعقاب وسقط عندهم تمييز الطاعة عن العصيان والكفر عن الايمأن قلنا فقد اعترفت باجماع الصحابة على تكفير هذا الرجل وقتله لانه مصرح به ونحن لم نزرد على أن المصرح به كافر نجب قتله وقد وقع الاتفاق عليه وبقى قولكم أن سبب تكفيرهم مراعاة مصلحة العوام وهذا وهم وظن محض لا يعنى عن الحق شيئا بل نعلم قطعا انهم كانوا يعتقدون ذلك تكذيبا لله تعالى ولرسوله وردا لما ورد به الشرع ولم يدفعه العقل فان قيل فهلا سلكتم هذا المسلك في التمثيلات الواردة في صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ القدم ووضع الجبار قدمه في النار ولفظ الصورة في قوله عليه السلام أن الله خلق آدم عليه السلام على صورته إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على الف وانتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر بل كانوا يجرونها على الظاهر ثم انكم لم تكفروا منكر الظواهر ومؤولها بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به قلنا كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بانه {ليس كمثله شيء} والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى ونحن نعلم انه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان ولا يماس جسما ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمنتقلين والمتمكنين إلى غير ذلك من نفي صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد والتنزيل ولوأنكر الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار ولا مساواة بين الدرجتين وقد نبهنا على الفرق في باب الرد عليهم في مذهبهم بوجهين آخرين أحدهما أنالألفاظ الواردة في الحشر والنشر والجنة والنار صريحة لا تأويل لها ولا معدل عنها إلا بتعطيلها وتكذيبها والألفاظ الواردة في مثل الاستواء والصورة وغيرهما كتايات وتوسعات على اللسان تحتمل التأويل في وصفه والآخر ان البراهين العقليه يدفع اعتقاد التشبيه والنزول والحركه والتمكن من المكان وتدل على استحالتها دلاله لا يتمارى فيها ودليل العقل لا يحيل وقوع ما وعد به من الجنه والنار في الآخره بل القدره الأزليه محيطه بها مستوليه عليها وهي أمور ممكنه في نفسها ولا تتقاصر القدرة الأزلية عما له نعت الإمكان في ذاته فكيف يشبه هذا بما ورد من صفات الله تعالى ومساق هذا الكلام يتقاضى بث جملة من أسرار الدين أن شرعنا في استقصائها ورغبنا في كشف غطائها وإذ ورد ذلك معترضا في سياق الكلام غير مقصود في نفسه فلنقتصر على هذا القدر الذي انطوى في هذا الفصل ولنشتغل بما هو الأهم من مقاصد هذا الكتاب وقد بينا في هذا الفصل من يكفر منهم ومن لا يكفر ومن يضل ومن لا يضل.
الفصل الثاني في أحكام من قضي بكفره منهم
والقول الوجيز فيه أنه يسلك مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات أما الأرواح فلا يسلك بهم مسلك الكافر الأصلي إذ يتخير الإمام في الكافر الأصلي بين أربع خصال بين المن والفداء والاسترقاق والقتل ولا يتخير في حق المرتد بل لا سبيل إلى استرقاقهم ولا إلى قبول الجزية منهم ولا إلى المن والفداء وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية وليس يختص جواز قتلهم ولا وجوبه بحالة قتالهم بل نغتالهم ونسفك دماءهم فإنهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم وأن كانوا من الفرقة الأولى التي لم يحكم فيهم بالكفر وهو أنهم عند القتال يلتحقون بأهل البغي والباغي يقتل ما دام مقبلا على القتال وإن كان مسلما إلا أنه إذا أدبر وولى لم يتبع مدبرهم ولم يوقف على جريحهم أما من حكمنا بكفرهم فلا يتوقف في قتلهم إلى تظاهرهم بالقتال وتظاهرهم على النضال.
فان قيل هل يقتل صبيانهم ونساؤهم قلنا أما الصبيان فلا فإنه لا يؤاخذ الصبي وسيأتي حكمهم وأما النسوان فإنا نقتلهم مهما صرحن بالاعتقاد الذي هو كفر على مقتضى ما قررناه فإن المرتدة مقتولة عندنا بعموم قوله ﷺ من بدل دينه فاقتلوه نعم للإمام أن يتبع فيه موجب اجتهاده فإن رأى أن يسلك فيهم مسلك أبي حنيفة ويكف عن قتل النساء فالمسألة في محل الاجتهاد ومهما بلغ صبيانهم عرضنا الإسلام عليهم فإن قبلوا قبل إسلامهم وردت السيوف عن رقابهم إلى قربها وإن أصروا على كفرهم متبعين فيه آباءهم مددنا سيوف الحق إلى رقابهم وسلكنا بهم مسلك المرتدين وأما الأموال فحكمها حكم أموال المرتدين فما وقع الظفر به من غير إيجاف الخيل والركاب فهو فيء كمال المرتد فيصرفه إمام الحق على مصارف الفيء على التفصيل الذي اشتمل عليه قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} الآية وما استولينا عليه بإيجاف خيل وركاب فلا يبعد أن يسلك به مسلك الغنائم حتى يصرف إلى مصارفها كما اشتمل عليه قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} الآية وهذا أحد مسالك الفقهاء في المرتدين وهو أولى ما يقضى به في حق هؤلاءوأن كانت الأقاويل مضطربة فيه.
ومما يتعلق بالمال أنهم إذا ماتوا لا يتوارثون فلا يرث بعضهم بعضا ولا يرثون من المحقين ولا يرث المحق ما لهم إذا كان بينهم قرابة بل ولاية الوراثة منقطعة بين الكفار والمسلمين.
وأما أبضاع نسائهم فإنها محرمة فكما لا يحل نكاح مرتدة لا يحل نكاح باطنية معتقدة لما حكمنا بالتكفير بسببه من المقالات الشنيعة التي فصلناها ولو كانت متدينة ثم تلقفت مذهبهم أنفسخ النكاح في الحال أن كان قبل المسيس ويوقف على انقضاء العدة بعد المسيس فان عادت إلى الدين الحق وانسلخت عن المعتقد الباطل قبل تصرم العدة بقضاء مدتها استمر النكاح على وجهه وأن اصرت واستمرت حتى انقضت المدة وتصرمت العدة تبين أنفساخ النكاح من وقت الردة ومهما تزوج الباطني المحكوم بكفره بامرأة من أهل الحق أو من أهل دينه فالنكاح باطل غير منعقد بل تصرفه في ماله بالبيع وسائر العقود مردود فإن الذي اخترناه في الفتوى الحكم بزوال ملك المرتدين بالردة.
ويتصل بتحريم المناكحة تحريم الذبائح فلا تحل ذبيحة واحد منهم كما لا تحل ذبيحة المجوسي والزنديق فان الذبيحة والمناكحة تتحاذيان فهما محرمتان في حق سائر أصناف الكفار إلا اليهود والنصارى لأن ذلك تخفيف في حقهم لانهم أهل كتاب انزله الله تعالى على نبي صادق ظاهر الصدق مشهور الكتاب. واما اقضية حكامهم فباطلة غير نافذة وشهادتهم مردودة فإن هذه أمور يشترط الإسلام في جميعها فمن حكم بكفره من جملتهم لم تصح منه هذه الأمور بل لا تصح عبادتهم ولا ينعقد صيامهم وصلاتهم ولا يتأدى حجهم وزكاتهم ومهما تابوا وتبرءوا عن معتقداتهم وحكمنا بصحة توبتهم وجب عليهم قضاء جميع العبادات التي فاتت والتي اديت في حالة الكفر كما يجب ذلك على المرتد.
فهذا هو القدر الذي أردنا أن ننبه عليه من جملة أحكامهم.
فإن قيل ولماذا حكمتم بإلحاقهم بالمرتدين والمرتد من التزم بالدين الحق وتطوقه ثم نزع عنه مرتدا ومنكرا له وهؤلاء لم يلزموا الحق قط بل وقع نشوؤهم على هذا المعتقد فهلا ألحقتموهم بالكافر الاصلي قلنا ما ذكرناه واضح في الذين انتحلوا أديانهم وتحولوا اليها معتقدين لها بعد اعتقاد نقيضها أو بعد الانفكاك عنها وأما الذين نشئوا على هذا المعتقد سماعا من آبائهم فهم أولاد المرتدين لأن آباءهم وآباء آبائهم لابد أن يفرض في حقهم تنحل هذا الدين بعد الانفكاك عنه فإنه ليس معتقدا يستند إلى نبي وكتاب منزل كاعتقاد اليهود والنصارى بل هي البدع المحدثة من جهة طوائف من الملحدة والزنادقة في هذه الاعصار القريبة المتراخية وحكم الزنديق أيضا حكم المرتد لا يفارقه في شيء أصلا وانما يبقى النظر في أولاد المرتدين وقد قيل فيهم إنهم أتباع في الردة كأولاد الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة وعلى هذا فأن بلغ طولب بالإسلام وإلا قتل ولم يرض منه بالجزية ولا الرق وقيل إنهم كالكفار الأصليين إذ ولدوا على الكفر فإذا بلغوا وآثروا الاستمرار على كفر آبائهم جاز تقريرهم بالجزية وضرب الرق عليهم وقيل إنه يحكم بإسلامهم لأن المرتد مؤاخذ بعلائق الإسلام فإذا بلغ ساكتا فحكم الإسلام يستمرإلى أن يعرض عليه الإسلام فأن نطق به فذاك وأن أظهر كفر أبويه عند ذلك حكمنا بردته في الحال وهذا هو المختار عندنا في صبيان الباطنية فإن علقة من علائق الإسلام كافية للحكم بإسلام الصبيان وعلقة الإسلام باقية على كل مرتد فإنه مؤاخذ بأحكام الإسلام في حال ردته وقد قال ﷺ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. فيحكم بإسلام هؤلاء ثم إذا بلغوا كشف لهم عن وجه الحق ونهوا عن فضائح مذهب الباطنية وذلك بكشف للمصغى إليه في أوحى ما يقدر وأسرع ما ينتظر فإن أبى إلا دين آبائه فعند ذلك يحكم بردته من وقته ويسلك به مسلك المرتدين.
الفصل الثالث في قبول توبتهم وردها
وقد ألحقنا هؤلاء بالمرتدين في سائر الأحكام وقبول التوبة من المرتد لابد منه بل الأول ألا يبادر إلى قتله إلا بعد استتابته وعرض الإسلام عليه وترغيبه فيه وأما توبة الباطنية وكل زنديق مستتر بالكفر يرى التقية دينا ويعتقد النفاق واظهار خلاف المعتقد عند استشعار الخوف حقا ففي هذا خلاف بين العلماء ذهب ذاهبون إلى قبولها لقوله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. ولأن الشرع إنما بنى الدين على الظاهر فنحن لا نحكم إلا بالظاهر والله يتولى السرائر والدليل عليه أن المكره إذا أسلم تحت ظلال السيوف وهو خائف على روحه نعلم بقرينة حاله انه مضمر غير ما يظهره فنحكم بإسلامه ولا نلتفت إلى المعلوم بالقرائن من سريرته ويدل عليه أيضا ما روي أن أسامة قتل كافرا فسل عليه السيف بعد أن تلفظ بكلمة الإسلام فاشتد ذلك على رسول الله ﷺ فقال أسامة إنما فعل ذلك فرقا من السيف فقال ﷺ: هلا شققت عن قلبه. منبها به على أن البواطن لا تطلع عليها الخلائق وإنما مناط التكليف الأمور الظاهرة ويدل عليه أيضا أن هذا صنف من أصناف الكفار وسائر أصناف الكفار لا يسد عليهم طريق التوبة والرجوع إلى الحق فكذلك هاهنا.
وذهب ذاهبون إلى أنه لا تقبل توبته وزعموا أن هذا الباب لو فتح لم يمكن حسم مادتهم وقمع غائلتهم فإن من سر عقيدتهم التدين بالتقية والاستسرار بالكفر عند استشعار الخوف فلو سلكنا هذا المسلك لم يعجزوا عن النطق بكلمة الحق واظهار التوبة عند الظفر بهم فيلهجون بذلك مظهرين ويستهزئون بأهل الحق مضمرين وأما الخبر فانما ورد في اصناف من الكفار دينهم انه لايجوز التصريح بما يخالفه وأن من التزام الإسلام ظاهرا صار تاركا للتهود والتنصر هذا معتقدهم ولذلك تراهم يقطعون اربا اربا بالسيوف وهم مصرون على كفرهم ولا يسمحون في موافقة المسلمين بكلمة فاما من كان دينه أن النطق بكلمة الإسلام غير ترك لدينه بل دينه أن ذلك عين دينه فكيف نعتقد بتوبته مما هو عين دينه والتصريح به وفاء لشرط دينه كيف يكون تركا للدين.
هذا ما ذكر من الخلاف في قبول توبتهم وقد استقصينا ذلك في كتاب شفاء العليل في اصول الفقه ونحن الآن نقتصر على ذكر ما نختاره في هذه الفرقة التي فيهم الكلام فنقول للنائب من هذه الضلالة أحوال الحالة الأولى أن يتسارع إلى اظهار التوبة واحد منهم من غير قتال ولا ارهاق واضطرار ولكن على سبيل الايثار والاختيار متبرعا به ابتداء من غير خوف واستشعار هذا ينبغي أن يقطع بقبول توبته فإنا أن نظرنا إلى ظاهر كلمته صدقناها موافقة لعين الإسلام وأن نظرنا إلى سريرته كان الغالب أنها على مطابقة اللسان وموافقته فإنا لم نعرف الآن له باعثا على التقية وإنما المباح عندهم إظهار نقيض المعتقد تقية عند تحقيق الخوف فأما في حالة الاختيار فهو من أفحش الكبائر ويعضد ذلك بأمر كلي وهو أنه لا سبيل إلى حسم باب الرشد عليهم فكم من عامي ينخدع بتخيل باطل ويغتر برأي قائل ثم ينتبه من نفسه أو ينبهه منبه لما هو الحق فيؤثر الرجوع إليه والشروع فيه بعد النزوع عنه فلا سبيل إلى حسم مسلك الرشاد على ذوي الضلال والعناد.
الحالة الثانية الذي يسلم تحت ظلال السيوف ولكنه من جملة عوامهم وجهالهم لا من جملة دعاتهم وضلالهم فهذا أيضا تقبل توبته فمن لم يكن مترشحا للدعوة فضرر كفره مقصور عليه في نفسه ومهما أظهر الدين احتمل كونه صادقا في إسراره وإظهاره ولعامي الجاهل يظن أن التلبيس بالأديان والعقائد مثل المواصلات والمعاقدات الاختبارية فيصلها مدة بحكم المصلحة ويقطعها أخرى وباطنه يوافق الظاهر فيما يتعاطاه من التزام وإعراض ولذلك ترى من يسبي من العبيد والإماء من بلاد الكفر إلى دارالإسلام يدينون بدينهم معتقدين وشاكرين لله على ما أتاح لهم من الرشد ورحض عنهم من وضر الكفر والغي ولو سئلوا عن السبب في تبديل الدين وإيثار الحق المبين على الباطل لم يعرفوا له سببا إلا موافقة السادة على وفق مصلحة الحال ثم ذلك يؤثر في باطن عقائدهم كما نرى ونشاهد فإذا عرف أن العامي سريع التقلب فنصدقه في انقلابه إلى الحق كما نصدقه في إضرابه عنه إذا ظهر من معتقده خلاف الحق فإنا بين أن نغضى عن كافر مستسر ولا نقتله بل نتعامى عنه أو نهجم على قتل مسلم ظاهرا أو باطنا أن كان مضمرا لما يظهر وليس في التغاضي عن كفر كافر ليست له دعوه تنتشر وليس فيه شر يتعدى كبير محظور فكم مننا على الكفار وأغضينا عنهم ببذل الدينار فليس ذلك ممتنعا أما اقتحام الخطر في قتل من هو مسلم ظاهرا ويحتمل ان يكون مسلما باطنا احتمالا قويا فمحظور.
الحاله الثالثة أن ننظر بواحد من دعاتهم ممن يعرف منه أنه يعتقد بطلان مذهبه ولكنه ينتحله غير معتقد له ليتوصل إلى استمالة الخلق وصرف وجوههم إلى نفسه طلبا للرياسة وطمعا في حطام الدنيا هذا هو الذي يتقي شره والأمر فيه منوط برأي الإمام ليلاحظ قرائن أحواله ويتفرس من ظاهره في باطنه ويستبين أن ما ذكره يكون إذعانا للحق واعترافا به بعد التحقق والكشف أو هو نفاق وتقية وفي قرائن الأحوال ما يدل عليه والأولى ألا يوجب على الإمام قتله لا محالة ولا أنيحرم قتله بل يفوض إلى اجتهاده فإن غلب على ظنه أنه سالك منهج التقية فيما أداه قتله وأن غلب على ظنه أنه تنبه للحق وظهر له فساد الأقاويل المزخرفة التي كان يدعو اليها قبل توبنه وأغضى عنه في الحال وأن بقيت به ريبة وكل به من يراقب أحواله ويتفقده في بواطن أمره ويحكم فيه بموجب ما يتضح له منه فهذا هو المسلك القصد القريب من الإنصاف والبعيد من التعصب والاعتساف.
الفصل الرابع في حيلة الخروج عن إيمانهم وعهودهم إذا عقدوها على المستجيب
فإن قال لنا قائل ما قولكم في عهودهم ومواثيقهم وأيمانهم المعقودة على المستجيبين هل تنعقد وهل يجوز الحنث فيها أم يجب الحنث أو يحرم وأن حنث الحالف يلزمه بسببه معصية وكفارة أم لا يلزم وكم من شخص عقد عليه العهد وأكدت عليه اليمين فتطوقه اغترارا بتخيلهم ثم لما انكشف له ضلالهم تمنى افتضاحهم والكشف عن عوراتهم ولكن منعته الأيمان المغلظة المؤكدة عليه فالحاجة ماسة إلى تعليم الحيلة في الخروج عن تلك الأيمان فنقول الخلاص من تلك الأيمان ممكن ولها طرق تختلف باختلاف الأحوال والألفاظ.
الأول أن يكون الحالف قد تنبه لخطر اليمين وإمكان اشتماله على تلبيس وخداع فذكر في نفسه عقيب ذلك الاستثناء وهو قوله إن شاء الله فلا ينعقد ولا يمتنع عليه الحنث وإذا حنث لم يلزمه بالحنث حكم أصلا وهذا حكم كل يمين أردف بكلمة الاستثناء كقوله والله لأفعلن كذا أن شاء الله وكقوله أن فعلت كذا فزوجتي طالق إن شاء الله وما جرى مجراه.
الثاني أن يؤدي في يمينه أمرا وينوي خلاف ما يلتمس منه ويضمر خلاف ما يظهر ويكون الإضمار على وجه يحتمله اللفظ فيدبر بينه وبين الله عز وجل فله أن يخالف ظاهر كلامه ويتبع فيه موجب ضميره ونيته فإن قيل الاعتماد في اليمين على نية المستحلف إذ لو عول على نية الحالف واستثنائه لبطلت الأيمان في مجالس القضاة ولم يعجز المحلف بين أيديهم عن إضمار نية وإسرار استثناء وذلك يؤدي إلى إبطال الحقوق. قلنا القياس أن يكون التعويل على نية الحالف واستثنائه فإنه الحالف والمحلف عارض عليه اليمين ولكنه حكم باتباع نية المستحلف مراعاة للحقوق وصيانة لها بحكم الضرورة الداعية إليه وذلك في المحق في التحليف الموافق للشرع وموارد التوقيف فيه فأما المكره ظلما والمخادع عدوانا وغشما فلا ويعتبر أمر الحالف معه في القانون القياسي في الاعتبار بجانب الحالف لأن سبب العدول إلى اعتبار جانب المستحلف شدة الحاجة وأي حاجة بنا إلى تسليط الظلمة على تأكيد اليمين على ضعفاء المسلمين بأنواع الخداع والتلبيس فيجب الرجوع فيه إلى القانون.
الثالث أن ينظر إلى لفظ الحلف فإن قال عليك عهد الله وميثاقه وما أخذ على النبيين والصديقين من العهود وإن أظهرت السر فأنت بريء من الإسلام والمسلمين أو كافر بالله رب العالمين أو جميع أموالك صدقة لا ينعقد بهذه الألفاظ يمين أصلا فإنه أن قال أن فعلت كذا فأنا بريء من الإسلام ومن الله ورسوله لم تكن هذه يمينا لقوله ﷺ من حلف فليحلف بالله أو فليصمت الحلف بالله أن يقول تالله ووالله وما يجري مجراه وقد استقصينا صريح الإيمان في فن الفقه وهذه الألفاظ ليست من جملتها وكذا قوله على عهد الله وميثاقه وما أخذه الله على النبيين فإنه إذا لم يأخذ الله ميثاقهم وعهده لا ينعقد ذلك بقول غيره والله تعالى لم يأخذ ميثاقهم على كتمان سر الكفار والضلال ولا هذا العهد مماثل عهد الله فلا يلزم به شيء وكذلك لو قال الإنسان أن فعلت كذا فأموالي صدقة لا يلزمه شيء إلا أن يقول فلله على إن أتصدق بمالي وهو يمين الغضب واللجاج ويخلصه على الرأي المختار كفارة يمين.
الرابع أن ينظر إلى المحلوف عليه فإن كان لفظ المخلف فيه ما حكيناه في نسخة عهودهم وهو قولهم تكتم سر ولى الله وتنصره ولا تخالفه فليظهر السر مهما اراد ولا يكون حانثا لانه حلف على كتمان سر ولى الله تعالى وقد كتمه وانما الذي افشاه سر عدو الله وكذا قولهم تنصر اقاربه واتباعه فكل ذلك يرجع إلى ولى الله ولا يرجع إلى من قصده المحلف لانه عدو الله لا وليه فاما إذا عين شخصا بالاشارة أو عرفه باسمه الذي يعرف به قال تكتم سرى أو قال تكتم سر فلان ولى الله أو سر هذا الشخص الذي هو ولى الله فقد قال قائل لا يحنث عند افشاء السر نظرا إلى الصفة واعراضا عن الاشارة وقالوا هو كما لو قال بعت منك هذه النعجة والمشار إليه رمكة فإنه لا يصح والمختار عندنا أن الحنث يحصل والاشارة المعرفة المعينة التي لا يتطرق اليها الكذب بحال اعلى واغلب من الوصف المذكور كذبا على وجه الفضول مع الاستغناء وليس هذا كما لو قال والله لأشربن ماء هذه الإداوة ولا ماء فيها أن اليمين لا تعنقد لانه لا وجود لمتعلق اليمين وكذلك لو ترك الاضافة إلى الاداوة وذكر قوله هذا الماء واشار باليد لم ينعقد لفقد المتعلق ها هنا ولو اقتصر على قوله لا يفشى سر هذا الشخص أو سر زيد انعقد وأن سكت عن قوله انه ولى الله ومهما انعقدت اليمين على هذا الوجه فيباح افشاء السر بل يجب افشاء السر ثم تلزم الكفارة كفارة يمين ويكفيه أنيطعم عشرة مساكين كل مسكين مدا من الطعام فإن عجز عن هذا صام ثلاثة أيام وما اهون الخطب في ذلك ولا حاجة إلى التانق في طلب الحيلة للخلاص من هذا القدر فإنه قريب محتمل ثم لا يعصي بالحنث لقوله ﷺ من حلف على يمين فراى غيرها خيرا منها فليات الذي هو خير وليكفر عن يمينه ومن حلف أن يزني ولا يصلي وجب عليه الحنث ولزمته الكفارة فهذا جار مجرى ذلك.
الخامس إذا ترك الحالف النية والاستثناء وترك المحلف لفظ العهد والميثاق ولفظ ولي الله وأتى بأيمان صريحة بالله وبتعليق الطلاق والعتاق في مماليكه الموجودين وزوجاته وفيما سيملك من بعد إلى آخر عمره وعلق بالحنث لزوم مائة حجة وصيام مائة سنة وصلاة الف الف ركعة والتصدق بالف دينار وما جرى هذا المجرى فطريقه في اليمين بالله أن يطعم عشرة مساكين أو يصوم عند العجز كما سبق وهذا أيضا يخلصه عن تعليق الصدقة والحج والصيام والصلاة بالحنث لأنذلك يمين غضب ولحاج لا يلزم الوفاء بموجبه واما تعليق الطلاق والعتق فيما سيملك من النساء والعبيد والاماء فباطل غير منعقد فيلحنث ولينكح من شاء متى شاء إذ لا طلاق قبل نكاح ولا عتاق فبل ملك وإن كان في ملكه رقيق وخاف من عنقه فطريقه أن بيعه من اهله أو من ولده أو من صديقه ثم يفشى السر ثم يستعيده إلى ملكه بالشراء أو الاستيهاب أو بما شاء ولا يعجز أحد عن صديق يثق بصداقته وامانته فيبيعه منه ثم يرده عليه مهما اراد واما زوجته إن حلف بطلاقها فيخالعها بدرهم معها أو مع اجنبي ويفشى السر ثم يجدد نكاحها فيا لحوق الطلاق بعده فإن قبل إن كان قد طلق قبل ذلك تطليقتين ولم تبق له إلا طلقة واحدة وفي الخلع ما يحرمها عليه إلى أن تنكح زوجا غيره فما سبيله قلنا سبيله أن يقول مهما وقع عليك طلاقي فانت طالق قبله ثلا ثا فمهما حنث لا يقع طلاقه وهذه هي اليمين الدائرة التي تخلص من الحنث وتمنع وقوع الطلاق فإن قيل فقد اختلف العلماء في ذلك وربما لا يرتضى المتورع اقتحام شبهة الطلاق قلنا السائل إن كان مقلدا فعليه تقليد المفتي ومتابعته وعهدة الطلاق يختص بتطوقها المفتى دون المقلد وأن كان المفتى مجتهدا فعليه موجب اجتهاده فإن أدى اجتهاده إلى ذلك لم يمنع وقوع الطلاق فهو مخير بين أن يستبدل بها غيرها أو يسكت عن إفشاء سرهم فيترك معتقدهم وليس في السكوت عن إفشاء ما قالوه موافقة لهم في الدين بل الموافقة في أن يعتقد ما اعتقدوه وأن يعرب عن اعتقاده ويدعو إليه فأن صرف ضلالهم ظاهرا وباطنا فليس يلزمه أن ينطق بما سمعه منهم إذ ليس يتعين حكاية الكفر عن كل كافر فهذه طرق الحيل في الخروج عن اليمين وذهب بعض الخائضين في هذا الفن إلى أن الأيمان الصادرة منهم لا تنعقد بحال وهو كلام يصدر عن قلة البصيرة بالأحكام الفقهية وإنما الموافق لتصرف الفقة وأحكام الشرع الذي ذكرناه والسلام.
الباب التاسع في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله
والمقصود من هذا الباب بيان إمامته على وفق الشرع وأنه يجب على كافة علماء الدهر الفتوى على البت والقطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة وبراءة ذمة المكلفين عند صرف حقوق الله تعالى إليه وأنه خليفة الله على الخلق وأن طاعته على كافة الخلق فرض.
فهذا باب يتعين من حيث الدين صرف العناية إلى تحقيقه وإقامة البرهان على منهج الحق وطريقه فإن الذي يسير إليه الكلام أكثر المصنفين في الإمامة يقتضي ألا نعتقد في عصرنا هذا وفي أعصار منقضية خليفة غير مستجمع لشرائط الإمامة متصف بصفاتهم فتبقى الإمامة معطلة لا قائم بها ويبقى المتصدي لهامتعدياعن شروط الإمامة غير مستحق لها ولا متصف بها وهذا هجوم عظيم على الأحكام الشرعية وتصريح بتعطيلها وإهمالها ويتداعى إلى التصريح بفساد جميع الولايات وبطلان قضاء القضاة وضياع حقوق الله تعالى وحدوده وإهدار الدماء والفروج والأموال والحكم ببطلان الأنكحة الصادرة من القضاة في أقطار الأرض وبقاء حقوق الله تعالى في ذمم الخلق فإن جميع ذلك لا يتأدى على وفق الشرع إلا إذا صدر استيفاؤها من القضاة ومصدر القضاة تولية الإمام فإن بطلت الإمامة بطلت التولية وانحلت ولاية القضاة والتحقوا بآحاد الخلق وامتنعت التصرفات في النفوس والدماء والفروج والأموال وانطوى بساط الشرع بالكلية في هذه المهمات العظيمة فالكشف عن فساد كل مذهب يتداعى إلى هذه العظائم من مهمات الدين وفرائضه إلا أن تقرير ذلك متوعر وترتيبه مع الاحتراز عن التهدف للاشكالات والاعتراضات متعسر ونحن بتوفيق الله نكشف الغطاء عنه فنقول ندعى أن الإمام المستظهر بالله حرس الله أيامه هو الإمام الحق الواجب الطاعة فإن طولنا باقامة البرهان عليه تدرجنا في تحقيقه وتلطفنا في تفهيمه إلى أن يعترف المستريب فيه بالحق ويلوح له وجه الصواب والصدق ونقول لابد من امام في كل عصر ولا مترشح للإمامة سواه فهو الإمام الحق إذا فهذه نتيجة بنيناها على مقدمتين احداهما قولنا لا بد من الإمام والاخرى قولنا لا يترشح للإمامة سواه ففي ايهما النزاع فإن قيل بم تنكرون على من لا يسلم انه لا بد من امام بل يقول لنا غنية عنه قلنا هذا سؤال اتفقنا نحن والباطنية وسائر اصناف المسلمين على بطلانه فإنهم أجمعوا وتطابقوا على أنه لا بد من إمام وإنما نزاعهم في التعيين لا في الأصل ولم يذهب أحد إلى أن الأمام لا يجب نصبه وأنه يستغنى عنه إلا رجل يعرف بعبد الرحمن بن كيسان ولا يستريب محصل في بطلان مذهبه وفساد معتقده وكأننا ننبه المسترشد بمسكين الأول هو أن ابن كيسان مسوق فيما يدعيه باجماع الأمة قاطبة ولقد هجم بما انتحل من المذهب على خرق الاجماع وتضمخ برذيلة العدول عن سنن الاتباع فليلاحظ العصر الأول كيف تسارع الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ إلى نصب الإمام وعقد البيعة وكيف اعتقدوا ذلك فرضا محتوما وحقا واجبا على الفور والبدار وكيف اجتنبوا فيه التوانى والاستئخار حتى تركوا بسبب الاشتغال به تجهيز رسول الله ﷺ وعلموا انه لو تصرم عليهم لحظة لاامام لهم فربما هجم عليهم حادثة ملمة وارتكبوا في حادثة عظيمة تتشتت فيها الآراء وتختلف متبوعا مطاعا يجمع شتات الآراء لا نخرم النظام وبطل العصام وتداعت بالانفصام عرى الأحكام فلاجل ذلك اثروا البدار إليه ولم يعرجوا في الحال إلا عليه وهذا قاطع في أن نصب الإمام أمر ضروري في حفظ الإسلام.
المسلك الثاني هو أن نقول لا يتمارى متدين في أن الذب عن حوزة الدين والنضال دون بيضته والانتداب لنصرته وحراسته بالمحافظة على نظام أمور جند الإسلام وعدته أمر ضروري واجب لابد منه وان النظام لا يستمر على الدوام إلا بمترصد يكلا الخلق بالعين الساهرة فمهما شرابت فئة للثوران وكشرت عن نابها واشرفت على الاستحكام بادر إلى تطفئتها وحسم غائلتها فانها لو تركت حتى إذا ثارت اشتغل بتطفئتها العوام والطغام والافراد والاحاد لأفضى ذلك إلى التعادي والتضاد وصارت الأمور شورى وبقي الناس فوضى مهملين سدى متهافتين على ورطات الردى مقتحمين فيه مسالك الهوى ومناهج المنى وعند ذلك تتناقض الارادات وتتنازع الشهوات وتفضي بالآخرة إلى استيلاء الرذائل على الفضائل وتوثب الطغام علماء الإسلام والاماثل وتمتد الأيدي إلى الأموال والفروج وأصبحت الأيدي السافلة عالية وليس يخفى ما في ذلك من حل عصام الأمور الدينية والدنيوية فيتبين بهذا للناظر البصير أن الإمام ضرورة الخلق لا غنية لهم عنه في دفع الباطل وتقرير الحق فقد ثبتت هذه المقدمة وهي أن الإمام لا بد منه.
فإن قيل وبم تنكرون على من ينازع في المقدمة الثانية وهي قولكم لا يترشح للإمامة سواه فإن الباطنية يدعون الخلق إلى مترشح لها غير ما إليه دعوتكم فكيف تستنب لكم هذه الدعوى. قلنا لا تنكر دعوى بعض المدعين للإمامة بغير استحقاق ولكنا نقول إذا بطل ما تدعيه الباطنية تعينت الإمامة لم يدعيهاوحصل ما نرومه ونبتغيه فانه إذا لم يكن بد من امام وفاقا وثبت ان الإمامة لا تعدو شخصين وثبت بطلان الإمامة في حق واحد لم تبق ريبة في ثبوتها للثاني والمسالك الدالة على إبطال الإمامة التي تدعيها الباطنية وترجيح الإمامة التي ندعيها أكثر من ان تدخل تحت الحصر فلسنا نسلك فيه مسلك الاستقصاء ولكنا نقتصر على دليلين واقعين قاطعين تقربهما كل عين ويشترك في دركهما الفطن والغبي والمحنك والصبي والمعاند والمنصف والمقتصد والمتعسف.
الأول هو أن عصام شرائط صحة العقيدة وسلامة الدين ولقد حكينا عن مذهب الباطنية وصاحبهم ما اقتضى ادنى درجاته التبديع والتضليل واعلاه التكفير والتبرى وذلك في إثباتهم الهين قديمين على ما اطبق عليه جميع فرقهم.
والثاني في إنكارهم الحشر والنشر والجنة والنار وجملة ما اشتمل عليه وعد القران ووعيده بفنون من التاويلات باطلة وذلك مما نعلم انه لو ذكر شيء منه في زمان رسول الله ﷺ وعصر الصحابة بعده لبادروا إلى حز الرقبة ولم يتماروا انه صريح التكذيب لله ورسوله فمن كذب الله في وحدانيته ولم يصدق بالايات الواردة في التوحيد ولم يصدق بالقيامة والبعث والنشور كيف يصلح ان ينتصب منصب الإمامة وان يناط به عرى الإسلام وهذا المسلك يتحققه الناظر إذا تصفح ثم رجع إلى مذاهبهم التي ذكرناها في إبطالها فيصح له بمجموع النظرين ما ذكرناه من اختلال الدين وفساد العقيدة واني يصلح للإمامة من فيه مثل هذه الرذيلة.
المسلك الثاني ان نسلم جدلا على سبيل التبرع والتقرير لمورد هذا السؤال ان صاحب الباطنية صالح للإمامة بصفاء الاعتقاد وصحة الدين وحصول سائر الشروط فمسلك الترجيح غير منحسم فان الإمامة التي ندعيها اجمع عليها ائمة العصر وعلماء الدهر بل جماهير الخلق واقاليم الارض في أقصى المشرق وفي أقصى المغرب حتى تطوق الطاعة له والانقيادلامره كل من على بسيط الارض الاشر ذمة الباطنية ولو جمع قضهم وقضيضهم وصغيرهم وكبيرهم لم يبلغ عددهم عدد أهل بلدة واحدة من متبعي الإمامة العباسية فكيف إذا قيسوا باهل ناحية أو باهل اقليم أو بكافة من على وجه الارض من منتحلي الإمام أفيتمارى المنصف في أن الغلاة من الباطنية على أهل الحق لو جمع منهم الصغير والكبير لم يبلغ عشر العشير من ناصري هذه الدولة القاهرة ومتبعي هذه العصابة المحقة وإذا كانت الإمامة تقوم بالشوكة وانما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الاتباع والاشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع فهذا اقوى مسلك من مسالك الترجيح وهذا بعد أن اعطيناهم بطريق المسامحة والتبرع صحة دينهم ووجود شروط الإمامة في صاحبهم.
فإن قيل ليس ينكر منكر كثرة هذه العصابة بالاضافة اليهم ولكن الحق لا يتبع الكثرة فان الحق خفى لا يستقل بدركه إلا الاقلون والباطل جلى يبادر إلى الانقياد له الاكثرون وانتم فقد بنيم الترجيح على قيام الشوكة بكثرة الانصار والاشباع وهذا انما يستقيم لو كانت الإمامة في اصلها تنعقد باجتماع الخلق على الطاعة فان ذلك لايرجح عند التجويز والاختلاف بالكثرة وليس الأمر كذلك بل الإمامة انما تنعقد عند الباطنية بالنص والمنصوص عليه محق بويع أو لم يبايع قل مبايعوه أو كثروا والمخالف له مبطل ساعدته دولته فكثر بسببها اتباعه أو لم تساعده فمن أي وجه يصح الاستدلال بكثرة الاتباع قلنا انما يستبين وجه دلالة الكثرة من فهم ماخذ الإمامة وقد بان انها ليست ماخوذة من النص كما قدرناه في الباب السابع ونبهنا على حماقة من يدعى تواتر النص من كل واحد منهم على ولده بل بينا جهل من يدعى ذلك في على رضي الله عنه فان ذلك لو كان لاستدل به على ولم يعجز عن اظهاره ولا رضى به فخو الذي جر العساكر والجنود في زمان معاوية حتى قتل من إبطال الإسلام في تلك المعارك الوف ولم يكترث بقتلهم فما الذي كان نزعه واشياعه عن الاستدلال بنص رسول الله ﷺ وقد بينا ان ذلك يقابله دعوى البكرية في النص على أبي بكر رضي الله عنه ودعوى الروندية في النص على العباس رضي الله عنه فإذا بطل تلقى الإمامة من النص لم يبق إلا الاختيار من أهل الإسلام والاتفاق على التقديم والانقياد وعند ذلك يبين انه مهما وقع الاتفاق على نصب واحد كما اتفقوا في بداية امامة العباسية فمن طمح إلى طلبها لنفسه كان باغيا فانهم لو اختلفوا في مبدأ الأمر وجب الترجيح بالكثرة في ذلك عند تقابل العدد وتقاربهم فكيف إذا اطبق كل من شرقت عليهم الشمس شارقة وغاربة لم يخالفهم إلا فئة معدودة وشرذمة يسيرة لا يؤبه ولا يعبأ بهم لشذوذهم بالاضافة إلى الخلق الكثير والجم الغفير الذين هم في مقابلتهم (ولا عشر العشر من أعشارهم وما هم إلا كالحسوة في البحر الزاخر والموج المتلاطم).
فان قيل وبم تنكرون على من يقول لا ماخذ للإمامة إلا لنص أو الاختيار فإذا بطل الاختيار ثبت النص ويدل على بطلان الاختيار انه لايخلو اما ان يعتبر فيه اجماع كافة الخلق أو اجماع كافه أهل الحل والعقد من جملة الخلق في جميع أقطار الأرض أو يعتبر إجماع أهل البلد الذي يسكنه الإمام ويقدر باجماع عشرة أو خمسة أو عدد مخصوص أو يكتفي بمبايعة شخص واحد وباطل ان يعتبر فيه اجماع كافة الخلق في جميع أقطار الارض فان ذلك غير مكن ولا مقدور لاحد من الأئمة ولا فرض ذلك أيضا في الاعصار الخالية للائمة الماضين وباطل ان تعتبر اجماع جميع أهل الحل والعقد في جميع افطار الارض لان ذلك مما يمتنع أو يتعذر تعذرا يفتقر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عمر الإمام فتبقى الأمور في مدة الانتظار مهملة ولانه لما عقدت البيعة لابي بكر رضي الله عنه لم ينتظر انتشار الأخبار إلى سائر الامصار ولا تواتر كنب البيعة من اقاصي الأقطار بل اشتغل بالإمامة وخاض في القيام بموجب الزعامة محتكما في أوامره ونواهيه على الخاصة والعامة وإذا بطل اشتراط اجماع كافة الخلق وكافة أهل الحل والعقد فالتخصيص بعد ذلك تحكم إذ ليس من يشترط باتفاق أهل بلدة بأولى ممن يكتفي بأهل محلة أو قرية أو لم يشترط اتفاق أهل ناحية أو اقليم ومن لا يشترط اجماع أربعين أو خمسة أو أربعة أو اثنين بأولى من غيره من الاعداد وهذه المقدرات قد ذهب إلى التحكم بها ذاهبون بمجرد التشهى من غير مستند فلا يبقى إلا الاكتفاء ببيعة شخص واحد وفي الأشخاص كثرة وأحوالهم متعارضة ولا يترجح شخص على شخص إلا بالعصمة فيجب ان يكون إذا مولى العهد واحد وليكن ذلك الشخص معصوما وهو معتقدنا وعند هذا لا تنفع الكثرة في المخالفين لذلك الواحد المتميز بخاصية عن غيره فإذا لا معتصم في الكثرة التي تعلقتم بها قلنا نعم لا ماخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار ونحن نقول مهما بطل النص ثبت الاختيار وقولهم ان الاختيار باطل لانه لايمكن اعتبار كافة الخلق ولا الاكتفاء بواحد ولا التحكم بتقدير عدد معين بين الواحد والكل فهذا جهل بمذهبنا الذي نختاره ونقيم البرهان على صحته والذي نختاره انه يكتفي بشخص واحد يعقد البيعة للامام مهما كان ذلك الواحد مطاعا ذا شوكة لا تطال ومهما كان مال إلى جانب مال بسببه الجماهير ولم يخالفه إلا من لا يكرث بمخالفته فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة إذا بايع كفى إذ في موافقته الجماهير فان لم يحصل هذا الغرض إلا لشخصين أو ثلاثة فلابد من اتفاقهم وليس المقصود اعيان المبايعين وانما الغرض قيام شوكة الإمام بالاتباع والاشياع وذلك يحصل بكل مستول مطاع ونحن نقول لما بايع عمر ابا بكر رضي الله عنهما انعقدت الإمامة له بمجرد بيعته ولكن لتتابع الايدي إلى البيعة بسبب مبادرته ولو لم يبايعه غير عمر وبقى كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب لما انعقدت الإمامة فان شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة فان المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الاراء في مصطدم تعارض الاهواء ولا تتفق الارادات المتنافضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة راى واحد إلا إذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته ومدار جميع ذلك على الشوكة ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الاكثرين من معتبري كل زمان.
فإذا بان أن هذا مأخذ الإمامة فليس يتمارى في أن الجهة الشريفة التي ننصرها قد صرف الله وجوه كافة الخلق اليها وجبل قلوبهم على حبها ولذلك قامت الشوكة له في أقطار الارض حتى لو ظهر باغ يظهر خلافا في هذا الجناب الكريم ولو بأقصى الصين أو المغرب لبادروا إلى اختطافه وتطهير وجه الارض منه متقربين إلى الله تعالى.
وقد لاح لك الآن كيف ترقينا من هذه المغاصة المظلمة وكيف دفعنا ما أشكل على جميع جماهير النظار من تعيين المقدار في عدد أهل الأخيار إذا لم نعين له عددا بل اكتفينا بشخص واحد يبايع وحكمنا بانعقاد الإمامة عند بيعته لا لتفرده في عينه ولكن لكون النفوس محموله على متابعة ومبايعة من أذعن هو لطاعته وكان في متابعته قيام قوة الإمام وشوكته وانصراف قلوب الخلائق إلى شخص واحد أو شخصين أو ثلاثة على ما تقتضيه الحال في كل عصر ليس أمرا اختيارا يتوصل إليه بالحيلة البشرية بل هو رزق إلهي يؤتيه الله من يشاء فكانا في الظاهر رددنا تعيين الإمامة إلى اختيار شخص واحد وفي الحقيقة رددناها إلى اختيار الله تعالى ونصبه إلا أنه يظهر اختيار الله عقيب متابعة شخص واحد أو أشخاص وإنما المصحح لعقد الإمامة انصراف قلوب الخلق لطاعته والانقياد له في أمره ونهيه وهذه نعمة وهدية من الله تعالى فإذا أتاحها لعبد من عباده وصرف إلى محبته وجوه أكثر خلقه وكان ذلك من الله تعالى لطفا في اختياره لخلافته وتعيينه للاقتداء بأوامره في تفقد عباده وذلك أمر لا يقدر كل البشر على الاحتيال لتحصيله.
فلينظر الناظر إلى مرتبة الفريقين إذا نسيت الباطنية أنفسها إلى أن نصب الإمام عندهم من الله تعالى وعند خصومهم من العباد ثم لم يقدروا على بيان وجه نسبة ذلك إلى الله تعالى إلا بدعوى الاختراع على رسوله في النص على على ودعوى بقاء ذلك في ذريته بقاء كل خلف لكل واحد ودعوى تنصيصه على أحد أولاده بعد موته إلى ضروب من الدعاوى الباطلة ولما نسبونا إلى أنا ننصب الإمام بشهوتنا واختيارنا ونقموا ذلك منا كشفنا لهم بالآخرة أنا لسنا نقدم إلا من قدمه الله فان الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة والشوكة تقوم بالمبايعة والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرا إلى الطاعة والموالاة وهذا لا يقدر عليه البشر ويدلك عليه انه لو اجمع خلق كثير لا يحصى عددهم على أن يصرفوا وجوه الخلق وعقائدهم عن الموالاة للإمامة العباسية عموما وعن المشايعة للدولة المستظهرية أيدها الله بالدوام خصوصا لافنوا اعمارهم في الحيل والوسائل وتهيئة الأسباب والوصائل ولم يحصلوا في اخر الأمور إلا على الخيبة والحرمان.
فهذا طريق إقامة البرهان على أن الإمام الحق هو أبا العباس أحمد المستظهر بالله حرس الله ظلاله في هذا العصر ولم يبق الاحسم مطاعن المنكرين في دعواهم اختلال شرائط الإمامة وفوات صفات الأئمة وها نحن نبين وجه الحق فيه في معرض سؤال وجواب.
فإن قال قائل ما ذكرتموه من الترجيح وتعيين هذه الجهة الكريمة لمن يستحق الإمامة انما يستتب إذا أظهر تم وجود شرائط الإمامة وصفات الأئمة ولها شروط كثيرة لا تنعقد دون شروطها بل لو تطرق الخلل إلى شرط من شرائطها امتنع انعقادها ففصلوا الشروط وبينوا تحققها حتى نسلم لكم ثبوت الإمامة ونبطل مذهب القائلين بأن هذا العصر والأعصار الخالية القربية كانت خالية عن الإمام لفقد شروط الإمامة في المترشحين لها.
الجواب إن الذي عده علماء الإسلام من صفات الأئمة وشروط الإمامة تحصرها عشر صفات ست منها خلقية لا تكتسب وأربع منها تكتسب أو يفيد الاكتساب فيها مزيدا فأما الست الخلقية فلا شك في حضورها ولا تتصور المجاحدة في وجودها الأولى البلوغ فلا تنعقد الإمامة لصبي لم يبلغ الثانية العقل فلا تنعقد لمجنون فإن التكليف ملاك الأمر وعصامه ولا تكليف على صبي ومجنون الثالثة الحرية فلا تنعقد الإمامة لرقيق فإن منصب الإمامة يستدعي استغراق الأوقات في مهمات الخلق فكيف ينتدب لها من هو كالمفقود في حق نفسه الموجود لمالك يتصرف تحت تدبيره وتسخيره كيف وفي اشتراط نسب قريش ما يتضمن هذا الشرط إذ ليس يتصور الرق في نسب قريش بحال من الأحوال الرابعة الذكورية فلا تنعقد الإمامة لامرأة وان اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال وكيف تترشح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات الخامسة نسب قريش لا بد منه لقوله ﷺ الأئمة من قريش واعتبار هذا مأخوذ من التوقيف ومن اجماع أهل الاعصار الخالية على أن الإمامة ليست إلا في هذا النسب ولذلك لم يتصد لطلب الإمامة غير قرشي في عصر من الاعصار مع شغف الناس بالاستيلاء والاستعلاء وبذلهم غاية الجهد والطاقة في الترقي إلى منصب العلا ولذلك لما هم المخالفون بمصر لطلب هذا الأمر ادعوا أولا لانفسهم الاعتزاء إلى هذا النسب علما منهم بان الخلق متطابقون على اعتقادهم لانحصار الإمامة فيهم السادسة سلامة حاسة السمع والبصر إذ لا يتمكن الاعمى والاصم من تدبير نفسه فكيف يتقلد عهدة العالم ولذلك لم يستصلحا لمنصب القضاء واضاف مصنفون إلى هذا اشتراط السلامة من البرص والجذام والزمانة وقطع الاطراف وسائر العيوب الفاحشة المنفرة وانكره منكرون وقالوا لا حاجة إلى وجود السلامة من هذه الامراض فان التكفل بامور الخلق والقيام بمصالحهم لا تستدعيها ولم يرد من الشارع توقيف وتعبد فيها وليس من غرضنا بيان الصحيح من المذهبين وانما المقصود ان هذه الصفات الست غريزية لا يمكن اكتسابها وهي بجملتها حاضرة حاصلة فلا تثور منها شبهة المعاندة أما الصفات الأربع المكتسبة وهي النجدة والكفاية والعلم والورع فقد اتفقوا على اعتبارها ونحن نبين وجود القدر المشروط لصحة الإمامة في الإمام المستظهر بالله امير المؤمنين ثبت الله دولته وان امامته على وفق الشرع وانه يجب على كل مفت من علماء الدهر ان يفني على القطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ اقضيته بالحق وبصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة وصرف حقوق الله إليه ليصرفها إلى مصارفها وبوجهها إلى مظانها ومواقعها ونتكلم في هذه الصفات الأربع على الترتيب.
القول في الصفة الأولى وهي النجدة
فنقول مراد الأئمة بالنجدة ظهور الشوكة وموفور العدة والاستظهار بالجنود وعقد الالوية والبنود والاستمكان بتضافر الاشياع والاتباع من قمع البغاة والطغاة ومجاهدة الكفرة والعتاة وتطفئة نائرة الفتن وحسم مواد المحن قبل أن يستظهر شررها وينتشر ضررها هذا هو المراد بالنجدة وهي حاصلة لهذه الجهة المقدسة فالشوكة في عصرنا هذا من اصناف الخلائق للترك وقد اسعدهم الله تعالى بموالاته ومحبته حتى انهم يتقربون إلى الله بنصرته وقمع اعداء دولته ويتدينون باعتقاد خلافته وامامته ووجوب طاعته كما يندينون بوجوب أوامر الله وبتصديق رسله في رسالته فهذه نجدة لم يثبت مثلها لغيره فكيف يتمارى في نجدته.
فإن قيل كيف تحصل نجدته بهم وانا نراهم يتهجمون على مخالفة أوامره ونواهيه ويتعدون الحدود المرسومة لهم فيه وانما تحصل الشوكة بمن يتردد تحت الطاعة على حسب الاستطاعة وهؤلاء في حركاتهم لا يترددون إلا خلف شهواتهم وإذا هاج لهم غضب أو حركتهم شهوة أو أوغر صدورهم ضغينة لم يبالوا بالاتباع ولم يعرفوا إلا الرجوع إلى ما جبلوا عليه من طباع السباع فكيف تقوم الشوكة بهم.
قلنا هذا سؤال في غاية الركاكة فإن الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة الإمام لا تزيد على الطاعة المشروطة على الارقاء والعبيد في حق ساداتهم ولا على الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله وأحوال العبيد في طاعة سيدهم وأحوال العباد في طاعة ربهم لا تنفك عن الانقسام إلى موافقة ومخالفة فلما انقسم المكلفون إلى المطيعين والعصاة ولم ينسلخوا به عن اهاب الإسلام ولا انسلوا به عن ربقته ما داموا معتقدين ان الطاعة لله مفروضة وان المخالفة محرمة ومكروهة فهذا حال الجد في الطاعة لصاحب الأمر فانهم وان خالفوا امرا من الأوامر الواجبة الطاعة اعتقدوا المخالفة اساءة والموافقة حسنة ولذلك تراهم لا يغيرون العقيدة عن الموالاة ولو قطعوا إربا وما من شخص يقدر مخالفته في أمر من الأمور إلا وهو بعينه إذا انتهى إلى العتبة الشريفة صفع الأرض خاضعا وعفر خده في التراب متواضعا ووقف وقوف أذل العبيد على بابه وانتهض مائلا على رجليه عند سماع خطابه ولو نبغت نابغة في طرف من أطراف الأرض على معاداة هذه الدولة الزاهرة لم يكن فيهم أحد إلا ويرى النضال دون حوزتها جهادا في سبيل الله نازلا منزلة جهاد الكفار فأية طاعة في عالم الله تزيد على هذه الطاعة وأية شوكة في الدنيا تقابل هذه الشوكة وليت شعري لم لا يتذكر الباطنية عند إيراد هذا السؤال ما جرى لعلي رضي الله عنه من اضطراب الأحوال وتخلف أشياعه عنه في القتال ومخالفتهم لاستصوابه في أكثر الأقوال والأفعال حتى كان لا تنفك خطبة من خطبه عن شكايتهم في الإعراض عنه والاستبداد برأيهم حتى كان يقول لا رأى لمن لا يطاع فإذا كانت تقوم شوكته باتباع الاكثر من اتباعه من انتصاب من انتصب لمخالفته فكيف لا تقوم الشوكة في زماننا هذا والحال على ما ذكرنا فان قيل كان علي رضي الله عنه يتولى الأمر بنفسه ويباشر الحروب ويتبرج للخلق ولا يحتجب عنهم قلنا ومن الذي شرط في الإمامة مباشرة الأمور وتعاطيها بنفسه نعم لا حرج عليه لو باشر بنفسه فإذا استغنى بجنوده وأتباعه عن المقاساة للحرب بنفسه جاز له الاقتصار على مجرد الرأي والتدبير إذا روجع في الأمور القريبة منه ومن قطره والتفويض إلى ذوي الرأي الموثوق ببصيرتهم في الأمور البعيدة عنه وهذا الآن في عصرنا مستغنى عنه فقد سخر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبددوا في أقطار الدنيا كما نشاهد ونرى فليس وراء هذه الشوكة أمر يشترط وجوده لصحة الإمامة فإن قيل وما بالكم تنظرون إلى هؤلاء ولا تنظرون إلى جنود المخالفين وهم أيضا مستظهرين بشوكة على مخالفة هذه الشوكة قلنا مهما كانت الكثرة من هذا الجانب لم تقدح مخالفة المخ الفين أفترى لم لم ينظر الباطني إلى شوكة معاوية وعدته ومقاومته لعلى بجنوده وأنصاره فكيف لمم يشترط في صحة الإمامة أن تصفو له جوانب الدنيا عن قذى المخالفة ولو شرط هذافي الإمانة لم تنعقد الأمامة لأحد قط من مبدأالامرإلى زماننا هذا فقد اتضح أن المشروط من هذه الصفة موجود وزيادة.
القول في الصفة الثانية وهي الكفاية
ومعناها التهدى لحق المصالح في معضلات الأمور والاطلاع على المسلك المقتصد عند تعارض الشرور كالعقل الذي يميز الخير عن الشر وينصف به الجمهور وإنما العزيز المعون عقل يعرف خير الخيرين وشر الشريرين وذلك أيضا في الأمور العاجلة وهي هينة قريبة وإنما الملتبس عواقب الأمور المخطرة ولن يستقل بها إلا مسدد للتوفيق من جهة الله تعالى ونحن نقول إن هذه الصفة حاصلة فإن أسبابها متوافرة فإنها مهما حصل من غريزة العقل وانفك عن العته والخبل كان الوصول إلى درك عواقب الأمور بطريق الظن والحدس مبنيا على ركنين أحدهما الفكر والتدبير وشرطه الفطنة والذكاء وهذه خصلة تميز فيها المنصور إمامته والمفروض طاعته عن النظراء بمزيد النفاذ والمضاء حتى صار أكابر العقلاء يتعجبون في معضلات الوقائع من رأيه الصائب وعقله الثاقب وتفطنه للدقائق يشذ عن درك المحنكين من ذوي التجارب وهذه صفة غريزية وهي من الله تحفة وهدية.
والركن الثاني الاستضاءة بخاطر ذوى البصائر واستطلاع راى اولى التجارب على طريق المشاورة وهي الخصلة التي أمر الله بها نبيه إذ قال {وشاورهم في الأمر} ثم شرطه أن يكون المستشير مميزا بين المراتب عارفا للمناصب معولا على راى من يوثق بدهائه وكفايته ومضائه وصرامته وشفقته وديانته وهذا هو الركن الاعظم في تدبير الأمور فان الاستبداد بالرأي وان كان من ذوى البصائر مذموم ومحذور وقد وفق الله الإمام بتفويض مقاليد أمره إلى وزيره الذي لم يقطع ثوب الوزارة إلا على قده حتى استظهر بآرائه السديدة في نوائب الزمان ومعضلات الحدثان ومراعاة مصالح الخلق في حفظ نظام الدين والملك وهو الجامع للصفات التي شرطها الشرع والعقل في المدبر والمشير من متانة الدين ونقاية الرأى وممارسة الخطوب ومقاساة الشدائد في طوارق الأيام ورزانة العقل والعطف على الخلق والتلطف بالرعية وبمجموع هذين الامرين يفهم مطلوب الكفاية فان مقصودها اقامة تناظم الأمور الدينية والدنيوية وهذه قضية يستدل على وجودها بمشاهدة الأحوال والافعال فلينظر المنصف كيف عالج معضلات الزمان بحسن رايه لما استاثر الله بروح الإمام المقتدى وامتع كافة الخلق بالإمامة الزاهرة المستظهرية وقد وافق وفاته احداق العساكر بمدينة السلام وازدحام اصناف الجند على حافتها والزمان زمان الفترة والدنيا طافحة بالمحن متموجة بالفتن والسيوف مسلولة في أقطار الارض والاضطراب عام في سائر البلاد لا يسكن فيها اوار الحرب ولا تنفك عن الطعن والضرب وامتدت اطماع الجند إلى الذخائر ففغروا أفواههم نحو الخزائن وكان يتداعى إلى تغيير الضمائر وثور الاحقاد والضغائن فلم يزل بدهائه وذكائه وحسن نظره ورايه مراعيا لنظام الأمر مترددا بين اللطف والعنف حتى انعقدت البيعة وانتشرت الطاعة واذعنت الرقاب واتسقت الأسباب وانطفات الفتن الثائرة وظل ظل الخلافة بحسن تدبيره وبراى وزيره ممدودا واصبح لواء النصر بحسن مساعيه معقودا وطريق الفساد بهيبته مسدودا واضحت الرعايا في رعايته وادعة وصارت عين الحوادث بحسن كلاءته عن مديته السلام هاجعة فليت شعري هل تكسب مثل هذه العظائم إلا بكمال الكفاية ونباهة الحزم والهداية وهل يستدل على كفاية الملوك بشيء سوى انتظام التدبير وحسن الراى في اختيار المشير والوزير فليس يعتبر في صحة الإمامة صفة الكفاية إلا ما يسر الله سبحانه له اضعاف ذلك فليقطع بوجود هذه الشريطة أيضا مضمومة إلى سائر الشرائط.
القول في الصفة الثالثة وهي الورع.
وهذه هي أعز الصفات وأجلها وأولاها بالرعايات وأجدرها وهو وصف ذاتي لا يمكن استعارته ولا الوصل إلى تحصيله من جهة الغير اما النجدة فتحصيلها من الغير لا محالة والهداية وان اعتمدت على غزارة العقل ففوائدها يمكن فيها الاستعارة بطريق المراجعة والاستشارة والعلم أيضا يمكنه تحصيله بالاستفتاء واستطلاع رأى العلماء والورع هو الاساس والاصل وعليه يدور الأمر كله ولا يغني فيه ورع الغير وهو رأس المال ومصدر جملة الخصال ولو اختل هذا والعياذ بالله لم يبق معتصم في تحقيق الإمامة فالحمد لله الذي زين أحوال الإمام الحق المنصور امامته بالورع والتقوى حتى اوفي فيه على الغية القصوى فتميز بمتانة الدين وصفاء العقل واليقين في جماهير الخلفاء حتى ظهر من أحواله منذ تجمل صدر الخلافة بجماله من إفاضة الخيرات والعطف على الرعايا وذوى الحاجات وقطع العمارات التي كانت العادة جارية بالمواظبة عليها كل ذلك اضرابا عن عمارة الدنيا واكبابا على ما ظهر من عمارة الدين هذا مع ما ظهر من سيرته في خاصة حالته من لبس الثياب الخشنة واجتناب الترفه والدعة والمواظبة على العبادات ومهاجرة الشهوات واللذات استحقارا لزخارف الدنيا وتوقيا من ورطات الهوى والتفاتا إلى حسن الماب في العقبى فهو على التحقيق الشاب الذي نشأ في عبادة الله هذا كله في عنفوان السن وغرة من الشباب وبداية الأمر ينبه العقلاء لما سينتهي إليه الحال إذا قارب سن الكمال.
إن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
والله تعالى يمده باطول الاعمار وينشر أعلامه في اقاصي الديار.
فان قال قائل كيف تجاسرتم على دعوى التقوى والورع ومن شرطه التجرد عن الأموال حتى لاياخذ قيراطا إلا من حله ولا يدعه إلا في مظنة استحقاقه وقد قال رسول الله ﷺ اتقوا النار ولو بشق تمرة وليس يتم الورع بالمواظبة على الفرائض واجتناب الموبقات والكبائر بل عماد هذا الأمر العدل واجتناب الظلم في طرفي الاعطاء والاخذ فان ادعيتم حصول هذا الشرط نفرت القلوب عن التصديق وان اعترفتم باختلال الأمر فيه انخرم ما ادعيتموه من حصول الورع والتقوى قلنا هذا السؤال نكسر أولا سورته ثم ننبه على سر هو منتهى الانصاف فنقول ان صدر الاعتراض عن باطني فلعله لو راجع صاحبه الذي يواليه واستقرى ما شاهده من هذه الأحوال فيه افتضح في دعاويه وكان الحياء خيرا له مما يورده ويبديه وان صدر السؤال عن أحد علماء العصر الذين يعتقدون خلو الزمان عن الإمام لفقد شرطه فيقال له هون على نفسك فان دعوى وجود هذا الشريط غير مستبعدة فان الأموال المنصبة إلى الخزائن المعمورة أربعة اصناف الصنف الأول ارتفاع المستغلات وهي ماخوذة من أموال موروثة له والصنف الثاني أموال الجزية وهي من اطيب ما يؤخذ والصنف الثالث أموال التركات ولم يعهد منه قط إلى الآن الطمع في تركة تعين لاستحقاقها وارث ومن لا وارث له فمنصبه بيت المال الصنف الرابع أموال الخراج الماخوذة من ارض العراق ومذهب الشافعي وطوائف من العلماء أن أرض العراق وقف وهي من عبادان إلى الموصل طولا ومن القادسية إلى حلوان عرضا انما وقفهخا عمر رضي الله عنه على المسلمين ليكون جميع خراجها منصبا إلى بيت المال ومصالح المسلمين فهذه هي الأموال الماخوذة واخذها جائز ويبقى النظر في مصارفها وهي مع اختلاف جهاتها أربع جهات وفيها تنحصر مصالح الإسلام والمسلمين.
الجهة الأولى المرتزقة من جند الإسلام إذ لابد من كفايتهم واكثرهم في هذا العصر مكفيون بثروتهم واستظهارهم ومقتدرون على كفاية غيرهم ومع ذلك فقد امدهم الراى الشريف النبوي في هذه الأيام مدة مقام العسكر بمدينة السلام بأموال استفرغ فيها الخزائن وافاض عليهم من ضروب التشريفات والإنعام ما يخلد ذكره على مكر الأيام والاعوام.
الجهة الثانية علماء الدين وفقهاء المسلمين القائمون بعلوم الشريعة فانهم حراس الدين بالدليل والبرهان كما ان الجنود حراسه بالسيف والسنان وما من واحد منهم إلا وهو مكفى من جهته برسم وادرار ومخصوص بانعام وايثار والمستحق لهم أيضا على بيت المال قدر الكفاية وهو مبذول لكل من يتشبه باهل العلم فضلا عمن يتلحى بتحقيقه.
الجهة الثالثة محاويج الخلق الذين قصرت بهم ضرورة الحال وطوارق الزمان عن اكتساب قدر الكفاية وليس ينتهى إليه الخبر في حاجة إلا سدها ولا يرتفع إليه قصد ذي فاقة إلا تداركها ومواظبته على الصدقات في نوب متواليات في السر والعلانية كافية جميع الحاجات.
الجهة الرابعة المصالح العامة من عمارة الرباطات والقناطر والمساجد والمدارس فيصرف لا محالة إلى هذه الجهة عند الحاجة قدر من بيت مال المسلمين فلا ترى هذه المواضع في أيامه إلا معمورة وملحوظة بالتعاهد من القوام بها والمتكفلين لها وهذا وجه الدخل والخرج.
ونختم الكلام بما يقطع مادة الخصام وتبين فيه غاية الانصاف فنقول لا يظنن ظان انا نشترط في الإمامة العصمة فان العلماء اختلفوا في حصولها للانبياء والاكثرون على انهم لم يعصموا من الصغائر ولو اعتبرت العصمة من كل زلة لتعذرت الولايات وانعزلت القضاة وبطلت الإمامة وكيف يحكم باشتراط التنقى من كل معصية والاستمرار على سمت التقوى من غير عدول ومعلوم ان الجبلات متقاضية للذات والطباع محرضة على نيل الشهوات والتكاليف يتضمنها من العناء ما يتقاعد عن احتمالها الاقوياء ووساوس الشيطان وهواجس النفس مستحثة على حب العاجلة واستحقار الاجلة والجبلة الإنسانية بالسوء امارة والتقى في ارجوحة الهوى يغلب تارة ويعجز تارة والشيطان ليس يفتر عن الوساوس والزلات تكاد تجرى على الانفاس فكيف يتخلص البشر عن اقتحام محظور والتورط في محظور ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه في شرط عدالة الشهادة لايعرف أحد بمحض الطاعة حتى لا يتضمخ بمعصية ولا أحد بمحض المعصية حتى لا يقدم على طاعة ولا ينفك أحد عن تخليط ولكن من غلبت الطاعات في حقه المعاصي وكانت تسووه سيئته وتسره حسنته فهو مقبول الشهادة ولسنا نشترط في عدالة القضاء إلا ما نشترطه في الشهادة ولا نشترط في الإمامة إلا ما نشترطه في القضاء وهذا ذكرناه إذا لج ملاح أو الح ملح ولازم اللدد في تصوير أمر من الأمور لا يوافق ظاهر الشرع وارادته الطعن في الإمامة والقدح فيها عرف ان ذلك غير قادح في اصل الإمامة بحال من الأحوال.
القول في الصفة الرابعة وهي العلم.
فإن قال قائل اتفق راي العلماء على أن الإمامة لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع ولا يمكنكم دعوى وجود هذه الشريطة ولو ادعيتم أن ذلك لا يشترط كان انسلالا عن وفاق العلماء قاطبة فما رأيكم في هذه الصفة.
قلنا لو ذهب ذاهب إلى أن بلوغ درجة الاجتهاد لا يشترط في الإمامة لم يكن في كلامه إلا الاعزاب عن العلماء الماضين والا فليس فيه ما يخالف مقتضى الدليل وسياق النظر فان الشروط التي تدعى للإمامة شرعا لابد من دليل يدل عليها والدليل اما نص من صاحب الشرع واما النظر في المصلحة التي طلبت الإمامة لها ولم يرد النص من شرائط الإمامة في شيء إلا في النسب إذ قال أن الأئمة من قريش فاما ما عداه فانما اخذ من الضرورة والحاجة الماسة في مقصود الإمامة اليها فهذا كما شرطنا العقل والحرية وسلامة الحواس والهداية والنجدة والورع فان هذه الأمور لو قدر عدمها لم ينتظم أمر الإمامة بحال من الأحوال وليست رتبة الاجتهاد مما لا بد منه في الإمامة ضرورة بل الورع الداعي إلى مراجعة أهل العلم فيه كاف فإذا كان المقصود ترتيب الإمامة على وفق الشرع فاى فرق بين ان يعرف حكم الشرع بنظره أو يعرفه باتباع افضل أهل زمانه وإذا جاز للمجتهد ان يعول على قول واحد ويروى له حديثا فيحكم به إماما كان أو قاضيا فما المانع من ان يحكم بما يتفق عليه العلماء في كل واقعة وان اختلف فيتبع فيه قوله الافضل الاعلم ولم لا يكون مكملا بافضل أهل الزمان مقصود العلم كما كمل باقوى أهل الزمان مقصود الشوكة وبادهى أهل الزمان وأكفاهم رأيا ونظرا مقصود الكفاية فلا تزال دولته محفوفة بملك من الملوك قوى يمده بشوكته وكاف من كفاة الزمان يتصدى لوزارته فيمده برايه وهدايته وعالم مقدم في العلوم يفيض ما يلوح من قضايا الشرع في كل واقعة إلى حضرته هذا لو قال به قائل لكان مستمدا من قواطع الادلة والبراهين التى يجوز استعمالها في مظان القطع واليقين فكيف في مواقع الظن والتخمين واكثر مسائل الإمامة واحكامها مسائل فقهية ظنية يحكم فيها بموجب الراى الاغلب وما ذكرته مسلك واضح فيه ولكنى لا اوثر الاعزاب عن الماضين ولا الانحراف عن جادة الأئمة المنقرضين فان الانفراد بالراى والانسلال عن موافقة الجماهير لا ينفك عن اثارة نفرة القلوب لكني استميح مسلكا مقتبسا من كلام الأئمة المذكورين واقول اختلف الناس في أن أهل الاختيار لو عقدوا عقد البيعة للمفضول واعرضوا عن الافضل هل تنعقد الإمامة مع الاتفاق على أن تقديم الافضل عند القدرة واجب متعين ثم ذهب الاكثرون إلى انها إذا عقدت للمفضول مع حضور الافضل انعقدت ولم يجز خلعه لسبب الافضل وانا من هذا انشئ واقول أن رددناها في مبدا التولية بين مجتهد في علوم الشرع وبين متقاصر عنها فيتعين تقديم المجتهد لان اتباع الناظر علم نفسه له مزية رتبة على اتباع علم غيره بالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أوتولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد وقامت له شوكة واذعنت له الرقاب ومالت إليه القلوب فان خلا الزمان عن قرشي مجتهد يستجمع جميع الشروط وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة ان قامت له الشوكة وهذا حكم زماننا وان قدر ضربا للمثل حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرض لاثارة فتن واضطراب أمور لم يجز لهم خلعه والاستبدال به بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته لأنا نعلم بأن العلم مزية روعيت في الإمامة تحسينا للأمر وتحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد وان الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة في تفرق الآراء المتنافرة فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش نظام الأمور وتفويت أصل المصلحة في الحال تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه واستبداله أو حكموا إمامته غير منعقدة وإذا أحسن إيراد هذه المقالة علم أن التفاوت بين اتباع الشرع نظرا واتباعه تقليدا قريب هين وانه لا يجوز أن تخرم بسببه قواعد الإمامة وهذا تقدير تسامحنا به من وجهين أحدهما تقدير قرشي مجتهد مستجمع الصفات متصد لطلب الإمامة وهذا لا وجود له في عصرنا والثاني تقدير اقتدارالخلق على الاستبدال بالإمام والتصرف فيه بالخلع والانتقال وهذا محال في زماننا إذ لو أجمع أهل الدهر وتألبوا على أن يصرفوا الوجوه والقلوب عن الحضرة المقدسة المستظهرية لم يجدوا اليها سبيلا فيتعين على كافة علماء العصر الفتوى بصحة هذه الإمامة وانعقادها بالشرع ولكن بعد هذا شرطان أحدهما أن لا يمضي كل قضية مشكلة إلا بعد استنتاج قرائح العلماء والاستظهار بهم وأن يختار لتقليده عند التباس الأمر واختلاف الكلمة أفضل أهل الزمان واغزرهم علما وقلما تنفك مدينة السلام عن شخص يعترف له بالتقدم في علم الشرع فلا بد من تعرف الشرع في الوقائع منه لينوب ذلك عن الاجتهاد والثاني أن يسعى لتحصيل العلم وحيازة رتبة الاستقلال بعلوم الشرع فإن الإمامة وان كانت صحيحة منعقدة في الحال فخطاب الله تعالى قائم بإيجاب العلم وافتراض تحصيله وإذا ساعدت القدرة عليه لم يكن للتواني فيه عذر لا سيما والسن سن التحصيل وريعان الشباب معين على الغرض والقدر الواجب تحصيله شرعا إذا صرف إليه الهمة الشريفة حصل في قدر يسير من الزمان ولا يليق تطلب غايات الكمال إلا بالحضرة المقدسة الشريفة النبوية المحقوقة بالعز والجلال.
وإذا اتضح في هذا الباب بهذه البراهين اللائحة أن مقتضى أمر الله أن الإمام الحق المستظهر بالله هو المتعين لخلافة الله فما أجدر هذه النعمة أن تقابل بالشكر وإنما الشكر بالعلم وبالعمل وبالمواظبة على ما أودعته في الباب الآخر من الكتاب وعلى الجملة فشكر هذه النعمة ألا يرضي أمير المؤمنين أن يكون لله على وجه الأرض عبد أعبد وأشكر منه كما أن الله تعالى لم يرض أن يكون له على وجه الأرض عبد أعز واكرم من أمير المؤمنين فهذا هو الشكر الموازي لهذه النعمة. والله ولي التوفيق بمنه ولطفه.
الباب العاشر في الوظائف الدينية التي بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة
ومن فرائض الدين على امير المؤمنين زاده الله توفيقا المداومة على مطالعة هذا الباب والاستقصاء على تأمله وتصفحه ومطالبة النفس الكريمة حتى تستمر عليه فإن ساعد التوفيق للمجاهدة في الاقتدار على وظيفة من هذه الوظائف ولو في سنة فهي السعادة القصوى وهذه الوظائف بعضها علمية وبعضها عملية فتقدم العلمية فإن العلم هو الأصل والعمل فرع له إذ العلوم لا حصر لها ولكنا نذكر أربعة أمورهن أمهات وأصول.
الأول أن يعرف أن الإنسان في هذا العالم لم خلق وإلى أي مقصد وجه ولأي مطلب رشح وليس يخفى على ذي بصيرة أن هذه الدار ليست دار مقر وإنما هي دار ممر والناس فيها على صورة المسافرين ومبدأ سفرهم بطون أمهاتهم والدار الآخرة مقصد سفرهم وزمان الحياة مقدار المسافة وسنوه منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه ويصار بهم عبر السفينة براكبها ولكل شخص عند الله عمر مقدر لا يزيد ولا ينقص ولهذا قال عيسى صلوات الله عليه وسلم الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وقد دعى الخلق إلى لقاء الله في دار السلام وسعادة الأبد فقال الله تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام} وهذا السفر لا يفضى إلى المقصد إلا بزاد وهو التقوى ولذلك قال تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فمن لم يتزود في دنياه لآخرته بالمواظبة على العبادة فسيرجع منه عند الموت ما اغتر من جسده وماله فيتحسر حيث لا يغنيه التحسر ويقول {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} ويقول {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} فحينئذ {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} وهذا الإنسان من وجه آخرفي دنياه حارث وعمله حرثه ودنياه محترثه ووقت الموت وقت حصاده ولذلك قال ﷺ الدنيا مزوعة الآخرة وانما البذر هو العمر فمن انقضى عليه نفس من انفاسه ولم يعبد الله فيه بطاعة فهو مغبون لضياع ذلك النفس فإنه لا يعود قط ومثال الإنسان في عمره مثال رجل كان يبيع الثلج وقت الصيف ولم تكن له بضاعة سواه فكان ينادي ويقول ارحموا من رأس ماله يذوب فرأس مال الإنسان عمره الذي هو وقت طاعته وانه ليذوب على الدوام فكلما زاد سنه نقص بقية عمره فزيادته نقصانه على التحقيق ومن لم ينتهز في انفاسه حتى يقتنص بها الطاعات كلها كان مغبونا ولذلك قال ﷺ من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون فكل من صرف عمره إلى ديناه فقد خاب سعيه وضاع عمله كما قال تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم} الآية ومن عمل لآخرته فهو الذي أنجح سعيه كما قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.
الوظيفة الثانية أنه مهما عرف أن زاد السفر إلى الآخرة التقوى فليعلم أن التقوى محلها ومنبعها القلب لقوله ﷺ التقوى ها هنا وأشار إلى صدره وينبغي أن يكون الاجتهاد في إصلاح القلب أولا إذ صلاح الجوارح تابع له لقوله ﷺ إن في بدن ابن آدم لبضعة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب وإصلاح القلب شرطه تقدم تطهيره عليه وطهارته في أن يطهر عن حب الدنيا لقوله ﷺ حب الدنيا رأس كل خطيئة وهذا هو الداء الذي أعجز الخلق ومن ظن أنه يقدر على الجمع بين التنعم في الدنيا والحرص على ترتيب أسبابها وبين سعادة الآخرة فهو مغرور كمن يطمع في الجمع بين الماء والنار لقوله أمير المؤمنين رضي الله عنه الدنيا والآخرة ضرتان مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى نعم لو كان الإنسان يشتغل بالدنيا لأجل الدين لا لأجل شهوته كمن يصرف عمره إلى تدبير مصالح الخلق شفقة عليهم أو يصرف بعض أوقاته إلى كسب القوت ونيته في كسب القوت إلى أن يتقوى بتناوله على الطاعة والتقوى فهذا من عين الدين وعلى هذا المنهاج جرى حرص الأنبياء والخلفاء الراشدين في أمور الدنيا ومهما ثبت أن الزاد هو التقوى وأن التقوى شرطها خلو القلب عن حب الدنيا فليكن الجهد في تخليته عن حبها وطريقه أن يعرف الإنسان عيب الدنيا وآفتها ويعرف شرف السعادة في الدار الآخرة وزينتها ويعلم أن في مراعاة الدنيا الحقيرة فوت الآخرة الخطيرة وأقل آفات الدنيا وهي مستيقنة لكل عاقل وجاهل أنها منقضية على القرب وسعادة الآخرة لا آخر لها هذا إذا سلمت الدنيا صافية عن الشوائب والأقذاء خالية عن المؤذيات والمكدرات وهيهات هيهات فلم يسلم أحد في الدنيا من طول الأذى ومقاساة الشدائد ومهما عرف تصرم الدنيا وتأبد السعادة في العقبى فليتأمل أنه لو شغف إنسان بشخص واستهتر به وصار لا يطبق فراقه وخير بين أن يعجل لقاءه ليلة واحدة بين أن يصبر عنه تلك الليلة مجاهدا نفسه ثم يخلى بينه وبينه ألف ليلة فكيف لا يسهل عليه الصبر ليلة واحدة لتوقع التلذذ بمشاهدته ألف ليلة ولو استعجل تلك الليلة وعرض نفسه لعناء المفارقة ألف ليلة لعد سفيها خارجا عن حزب العقلاء فالدنيا معشوقة كلفنا الصبر عنها مدة يسيرة ووعدنا أضعاف هذه اللذات مدة لا آخر لها وترك الألف بالواحد ليس من العقل واختيار الألف على الواحد المعجل ليس بمتعذر على العاقل وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان أقصى مدة مقامه في الدنيا وهي مائة سنة مثلا ومدة مقامه في الآخرة ولا آخر لها بل لو طلبنا مثالا لطول مدة الأبد لعجزنا عنه إلا أن نقول لو قدرنا الدنيا كلها إلى منتهى السموات ممتلئة بالذرة وقدرنا طائرا يأخذ بمنقاره في كل ألف سنة حبة واحدة فلا يزال يعود حتى لا يبقى من الذرة حبة واحدة فتنقضي هذه المدة وقد بقى من الذرة اضعافها فكيف لا يقدر العاقل إذا حقق على نفسه هذا الأمر على أن يستحقر الدنيا ويتجرد لله تعالى هذا لو قد قدر بقاء العمر مائة سنة وقدرت الدنيا صافية عن الاقذاء فكيف والموت بالمرصاد في كل لحظة والدنيا غير صافية من ضروب التعب والعناء وهذا أمر ينبغي أن يطول التامل فيه حتى يترسخ في القلب ومنه تنبعث التقوى وما لم يظهر للإنسان حقارة الدنيا لا يتصور منه أن يسعى للدار الاخرى وينبغي أن يستعان على معرفة ذلك بالاعتبار بمن سلف من أبناء الدنيا كيف تعبوا فيها ثم ارتحلوا عنها بغير طائل ولم تصحبهم إلا الحسرة والندامة ولقد صدق من قال من الشعراء حيث قال أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا وهذه حال لذات الدنيا.
الوظيفة الثالثة أن معنى خلافة الله على الخلق اصلاح الخلق ولن يقدر على اصلاح أهل الدنيا من لا يقدر على اصلاح أهل بلده ولن يقدر على اصلاح أهل البلد من لايقدر على اصلاح أهل منزله ولا يقدر على اصلاح أهل منزله من لايقدر على اصلاح نفسه ومن لا يقدر على اصلاح نفسه فينبغي أن تقع البداية باصلاح القلب وسياسة النفس ومن لم يصلح نفسه وطمع في اصلاح غيره كان مغرور كما قال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وفي الحديث ان الله تعالى قال لعيسى بن مريم عظ نفسك فان اتعظت فعظ الناس والا فاستحي مني ومثال من عجز عن اصلاح نفسه وطمع في اصلاح غيره مثال الاعمى إذا اراد يهدي العميان وذلك لا يستتب له قط وانما يقدر على اصلاح النفس بمعرفة النفس ومثل معرفة الإنسان في بدنه كمثل وال في بلده وجوارحه وحواسه واطرافه بمنزلة صناع وعملة والشرع له كمشير ناصح ووزير مدبر والشهوة فيه كعبد سوء جالب للميرة والطعام والعصب له كصاحب شرطة والعبد الجالب للميرة خبيث ماكر يتمثل للإنسان بصورة الناصح وفي نصحة دبيب العقرب فهو يعارض الوزير في تدبيره ولا يغفل ساعة من منازعته ومعارضته فكان الوالى في مملكته متى استشار في تدبيراته وزيره دون هذا العبد السوء الخبيث وادب صاحب شرطته وجعله مؤتمرا لوزيره وسلطه على هذا العبد الخبيث واتباعه حتى يكون هذا العبد مسوسا لا سائسا ومدبرا لا مدبرا استقام أمر بلده وكذا النفس متى استعانت في تدبيراتها بالشرع والعقل وادبت الحمية والغضب حتى لا يهتاج إلا باشارة الشرع والعقل وسلطته على الشهوة واستتب أمرها والا فسدت واتبعت الهوى ولذات الدنيا كما قال الله تعالى: {ولا تتبع الهوى} الأية وقال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} {وقال} {أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب} وقال تعالى في مدح من عصاها {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} الآية وعلى الجملة فينبغي ان يكون العبد طول عمره في مجاهدة غضبه وشهوته ومتشمرا لمخالفتها كما يتشمر لمخالفة اعدائه فانهما عدوان كما قال ﷺ اعدى عدو نفسك التي بين جنبيك ومثال من اشتغل بالتلذذ عندالشهوات والانتقام عند الغضب مثل رجل فارس صياد له فرس وكلب غفل عن صيده واشتغل بتعهد فرسه وطعمة كلبه وضيع فيه جميع وقته فإن شهوة الإنسان كفرسه وغضبه ككلبه فإن كان الفارس حاذقا والفرس مروضا والكلب مؤدبا ومعلما فهو قمين بإدراك حاجته من الصيد ومتى كان الفارس أخرق وفرسه جموحا أو حرونا وكلبه عقورا فلا فرسه ينبعث تحته منقادا ولا كلبه يسترسل باشارته مطيعا فهو قمين أن يعطب فضلا أن يدرك ما طلب ومهما جاهد الإنسان فيها هواه فله ثلاثة أحوال الأول أن يغلبه الهوى فيتبعه ويعرض عن الشرع كما قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الثاني أن يغالبه فيقهره مرة ويقهره الهوى أخرى فله أجر المجاهدين وهو المرد بقوله ﷺ جاهدوا هواكم كما تجاهدو أعداءكم الثالث أن يغلب هواه ككثير من الأنبياء وصفوه الأولياء لقوله ﷺ ما من أحد إلا وله شيطان وإن الله قد أعانني على شيطاني حتى ملكته وعلى الجملة فالشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجوده الهوى فيه وإنما مثلت الشهوة بالفرس والغضب بالكلب لأنه لولاهما لما تصورت العبادة المؤدية إلى السعادة الآخرة فإن الإنسان يحتاج في عبادته إلى بدنه ولا قيام إلا بالقوت ولا يقدر على الاقتيات إلا بشهوة وهو محتاج إلى أن يحرس نفسه عن الهلكات بدفعها ولا يدفع المؤذى إلا بداعية الغضب فكأنهما خادمان لبقاء البدن والبدن مركب النفس وبواسطتها يصل إلى العبادة والعبادة طريقه إلى النجاة.
الوظيفة الرابعة أن يعرف أن الإنسان مركب من صفات ملكية وصفات بهيمية فهو حيران بين الملك والبهيمة فمشابهته للملك بالعلم والعبادة والعفة والعدالة والصفات المحمودة ومشابهته للبهائم بالشهوة والغضب والحقد والصفات المذمومة فمن صرف همته إلى العلم والعمل والعبادة فخليق أن يلحق بالملائكة فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى: {إن هذا إلا ملك كريم} ومن صرف همته إلى إتباع الشهوات واللذات البدنية يأكل كما تأكل البهائم فخليق أن يلحق بالبهائم فيصير إما غمرا كثور وإما شرها كخنزير وإما ضرعا ككلب أو حقودا كجمل أو متكبرا كنمر أو ذا روغان ونفاق كثعلب أو يجمع ذلك فيصير كشيطان مريد وعلى ذلك دل قوله تعالى: {وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} {وقال} {كالأنعام بل هم أضل} {وقال} {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} وهذه الصفات الذميمة تجتمع في الآدمي في هذا العالم وهو في صورة الإنسان فتكون الصفة باطنة والصورة ظاهرة وفي الآخرة تتحد الصورة والصفات فيصور كل شخص بصفته التي كانت غالبة عليه في حياته فمن غلب عليه الشر حشر في صورة خنزير ومن غلب عليه الغضب حشر في صورة سبع ومن غلب عليه الحمق حشر في صورة حمار ومن غلب عليه التكبر حشر بصورة نمر وهكذا جميع الصفات ومن غلب عليه العلم والعمل واستولى بهما على هذه الصفات حشر في صورة الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وهذه الوظائف التي ذكرناها علمية يجب التأمل فيها حتى تتمثل في القلب فتكون نصب العين في كل لحظة وإنما تترسخ هذه العلوم في النفس إذا أكدت بالعمل كما سنذكره في الوظائف العملية بعد.
القول في الوظائف العملية
وهي كثيرة أولاها وهي من الأمور الكلية أن كل من تولى عملا على المسلمين فينبغي أن يحكم نفسه في كل قضية يبرمها فما لا يرتضيه لنفسه لا يرتضيه لغيره فالمؤمنون كنفس واحدة فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فليدركه موته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه وروى أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ أنه قال من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس من المسلمين.
ومنها أن يكون والى الأمر متعطشا إلى نصيحة العلماء ومتبجحا بها إذا سمعها وشاكرا عليها فقد روى أن أبا عبيدة ومعاذا كتبا إلى عمر رضي الله عنهم أما بعد فإنا عهدناك وشأن نفسك لك مهم وأصبحت وقد وليت بأمر هذه الأمة أسودها وأحمرها يجلس بين يديك الشريف والوضيع والصديق والعدو ولكل حصته من العدل فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر وانا نحذرك مما حذرت الأمم قبلك يوم تعنو فيه الوجوه وتجب فيه القلوب وتقطع فيه الحجة لعز ملك قهرهم جبروته والخلق داخرون له ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه وانه ذكر لنا أنه سياتي على الناس زمان يكون اخوان العلانية أعداء السريرة فانا نعوذ بالله ان ينزل كتابنا من قبلك سوى المنزل الذى نزل من قلوبنا وإنا كتبنا اليك نصيحة والسلام فكاتبهما بجوابه وذكر في آخر ما كتب إنكما كتبتما إلى نصيحة فتعهداني منكما بكتاب فإني لا غنى بي عنكما والسلام عليكما.
ومنها ألا يستحقر الوالى انتظار ارباب الحاجات ووقوفهم بالباب في لحظة واحدة فان الاهتمام بأمر المسلمين أهم له وأعود عليه مما هو متشاغل به من نوافل العبادات فضلا عن اتباع الشهوات فقد روى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جلس يوما للناس فلما انتصف النهار ضجر ومل فقال للناس مكانكم حتى أعود اليكم فدخل يستريح ساعة فجاء ابنه عبد الملك فاستأذن فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما سبب دخولك قال أردت ان استريح ساعة فقال أأمنت أن يأتيك الموت ورعيتك على الباب ينتظرونك وانت محتجب عنهم فقال عمر صدقت فقام من ساعته وخرج إلى الناس.
ومنها أن يترك الوالي للأمر الترفه والتلذذ بالشهوات في المأكولات والملبوسات فقد روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سلمان الفارسي يستزيره فلما قدم عليه سلمان تلقاه في أصحابه فالتزمه وضمه إليه وصار إلى المدينة فلما خلا به عمر قال له يا أخي هل بلغك مني ما تكرهه فقال لا قال عزمت عليك إن كان بلغك مني ما تكرهه ألا أخبرتني فقال لولا ما عزمت على أولا ما أخبرتك بلغني أنك تجمع بين السمن واللحم على مائدتك وبلغني أن لك حلتين حلة تلبسها مع أهلك وحلة تخرج فيها إلى الناس فقال عمر هل بلغك غير هذا فقال لا فقال أما هذان فقد كفيتهما فلا أعود إليهما
ومنها أن يعلم والي الأمر أن العبادة تيسر للولاة مالا يتيسر لآحاد الرعايا فلتغتنم الولاية لتعبد الله بها وذلك بالتواضع والعدل والنصح للمسلمين والشفقة عليهم فقد روى عن أبي بكر رضي الله عنه وهو على المنبر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول الوالي العدل المتواضع ظل الله ورمحه في أرضه فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله تعالى في وقده يوم لا ظل إلا ظله وفي غشه في نفسه وفي عباد الله خذله الله تعالى يوم القيامة ويرفع للوالي العدل المتواضع في كل يوم وليلة عمل ستين صديقا كلهم عبد مجتهد في نفسه فهذه رتبة عظيمة لا تسلم في كل عصر إلا لواحد وانما تنال هذه الرتبة بالعدل والتواضع وقد روى أبو سعيد الخدرى عن رسول الله ﷺ أنه قال سبعة يظلهم الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج من حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال إلى نفسها فقال أني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة وأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه فهذه سبع لا يتصور اجتماعها إلا في أمير المؤمنين وإنما يقدر غيره من الخلق على آحادها دون مجموعها فليجتهد في نيل رتبة لم تدخر إلا له ولن يقوم بها سواه فقد روى أيضا أبو سعيد الخدرى أنه قال إن أحب العباد إلى الله تعالى وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر وقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال ثلاثة لا يرد الله لهم دعوة الإمام العادل والصائم حتى يفطر والمظلوم يقول الله وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي لأنتصرن لك ولو بعد حين وقد روى عبد الله بن مسعود أنه قال ﷺ عدل ساعة خير من عبادة سنة وإنما قامت السموات والأرض بالعدل وقد روى عن ابن عباس أنه ﷺ قال والذي نفس محمد بيده إن الوالي العدل ليرفع الله له كل يوم مثل عمل رعيته وصلواته في اليوم تعدل تسعين ألف صلاة. وروى ابن عباس أيضا أنه ﷺ قال الإسلام والسلطان أخوان توأمان لا يصلح أحدهما إلا بصاحبه فالإسلام أس والسلطان حارس فمالا أس له منهدم ومالا حارس له ضائع وقد روى أنس أنه ﷺ قال ما من أحذ أفضل منزلة عند الله من إمام إن قال صدق وإن حكم عدل وإن استرحم رحم والقصد من رواية هذه الأخبار التنبيه على عظم قدر الإمامة وأنها إذا ترتبت بالعدل كانت أعلى العبادات وإنما يعرف العدل من الظلم بالشرع فليكن دين الله وشرع رسول الله ﷺ هو المفزع والمرجع في كل ورد وصدر وتفصيل العدل مما يطول ولعل الوظائف التي تأتي يشتمل عليه طرف منها.
ومنها أن يكون الرفق في جميع الأمور أغلب من الغلطة وأن يوصل كل مستحق إلى حقه فقد روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ أنه قال أيما وال ولي فلانا ورفق به رفق به يوم القيامة وروت عائشة أيضا أنه قال اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ولمن شفق عليهم فأشفق عليه هذا دعاء رسول الله ﷺ وإنه يستجاب لا محالة وقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال عند النبي ﷺ نعم الشيء الإمارة فقال ﷺ نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها فتكون حسرة عليه يوم القيامة وكل أمير عدل عن الشرع في أحكامه فقد أخذ إمارة بغير حقها.
وروى أبو هريرة عنه ﷺ أنه قال إن بني إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء عليهم السلام فكلما هلك نبي قام بني مكانه وإنه لا نبي بعدي وإنه يكون بعدي خلفاء قبل يا رسول الله ما تأمرنا فيهم قال اعطوهم حقهم واسألوا الله تعالى حقكم فإن الله تعالى سائلهم عما استرعاهم هو قد حكى أن هشام ابن عبد الملك قال لأبي حازم وكان من مشايخ الدين كيف النجاة من هذا الأمر يعنى من الإمارة قال ألا تأخذ الدرهم إلا من حله ولا تضعه إلا في حقه قال ومن يطيق ذلك قال من طلب الجنة وهرب من النار.
ومنها أن يكون أهم المقاصد عنده تحصيل مرضاه الخلق ومحبتهم بطريق يوافق الشرع ولا يخالفه فقد روى عوف بن مالك عنه ﷺ أنه قال إن خيار أئمتكم الذين تحبونهم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشر أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنوكم قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معاصي الله تعالى فليكره ما أتي من معاصي الله تعالى ولا ينزع يدا عن طاعة الله وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال لخليفتي على الناس السمع والطاعة ما استرحموا فرحموا وحكموا فعدلوا وعاهدوا فوفوا ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ومنها أن يعلم أن رضا الخلق لا يحسن تحصيله إلا في موافقة الشرع وأن طاعة الإمام لا تجب على الخلق إلا إذا دعاهم إلى موافقة الشرع كما روى عن محمد بن علي أنه قال إني لا علم قبيلتين تعبدان من دون الله قالوا من هم قال بنو هاشم وبنو أمية أما والله ما نصبوهم ليسجدوا لهم ولا ليصلوا لهم ولكن أطاعوهم واتبعوهم على ما أمدوهم والطاعة عبادة وقد روى ابن عباس أنه ﷺ قال لا تسخطن الله برضا أحد من خلقه ولا تقربوا إلى أحد من الخلق بتباعد من الله إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه قرابة يعظمهم بها ولا يصرف عن أحد شرا إلا بطاعته واتباع مرضاته واجتناب سخطه وان الله تعالى يعصم من أطاعه ولا يعصم من عصاه ولا يجد الهارب منه مهربا وقد روى عمر بن الحكم أن رسول الله ﷺ بعث سرية وأمر عليهم رجلا من أصحابه فأمر ذلك الرجل عبد الله بن حذاقة وكان ذا دعابة فاوقد نارا وقال ألستم سامعين مطيعين لأميركم قالوا بلى قال عزمت عليكم إلا وقعتم فيها ثم قال إنما كنت ألعب معكم فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال من أمركم من الأمراء بشيء من معصية الله فلا تطيعوه وقد روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه صعد المنبر بعد وفاة رسول الله ﷺ بسبعة أيام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه ثم قال أيها الناس انكم وليتموني أمركم ولست بخيركم فان أحسنت فأعينوني وإن ضعفت أو عدلت عن الحق فقوموني ولا تخافوا في الله أحدا إن اكيس الكيس التقى وان احمق الحمق الفجور ثم اني أخبركم أني سمعت رسول الله ﷺ وهو يقول في الغار إن الصدق أمانة وإن الكذب خيانة ألا إن الضعيف منكم القوى عندنا حتى يعطي الحق غير متعتع ولا مقهور والقوى هو الضعيف عندنا حتى نأخذ منه الحق طائعا أو كارها ثم قال أطيعونا ما أطعنا الله ورسوله فإذا عصينا الله ورسوله فلا طاعة لنا عليكم فقوموا إلى صلاتكم رحمكم الله وقد روى عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة أنه قال انتهيت إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون فسمعته يقول قام رسول الله ﷺ فقال إنه لم يكن شيء إلا كان حقا على الله أن يدل أمته على ما يعلمه خيرالهم وينذرهم ما يعلمه شرالهم وان أمتكم هذه جعلت عاقبتها في أولها وإلى آخرها سيصيبهم بلاء.
وأمور ينكرونها وتجيء سنه ألفين فيقول المؤمن هذه هذه ثم تنكشف فمن سره منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه ومن تابع إماما وأعطاه صفية قلبه وثمرة فؤاده فليعطه ما استطاع فقلت أناشدك الله أنت سمعته من رسول الله قال سمعت أذناي ووعى قلبي فقلت هذا ابن عمك يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وان قيل أنفسنا فقال قال الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} الآية قال فجمع يديه فوضعهما على جبهته ثم نكس رأسه فقال أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله. فبهذه الأحاديث يتبين أن الطاعة واجبة للأئمة ولكن في طاعة الله لا في معصيته.
ومنها أن يعرف أن خطر الإمامة عظيم كما أن فوائدها في الدنيا والآخرة عظيمة وأنها إن روعيت على وجهها فهي سعادة وان لم تراع على وجهها فهي شقاوة ليس فوقها شقاوة فقد روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه انه أقبل وفي البيت رجال من قريش فأخذ بعضادتي الباب ثم قال الأئمة من قريش ما قاموا فيكم بثلاث ما إن استرحموا رحموا وإن حكموا عدلوا وان قالوا أوفوا ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا الصرف النافلة والعدل الفريضة وهذا قول رسول الله ﷺ وما أعظم الخطر في أمر ينتهي إلى ألا يقبل بسببه فريضة ولا نافلة وقد روى أيضا انه ﷺ قال من حكم بين اثنين فجار وظلم فلعنة الله على الظالمين وقد روى أبو هريرة أنه ﷺ قال ثلاثة لا ينظر الله اليهم يوم القيامة الإمام الكذاب الشيخ الزاني والعائل المزهو وروى الحسن عن رسول الله ﷺ أنه قال يفتح عليكم مشارق الارض ومغاربها وعمالها كلهم في النار إلا من اتقى الله تعالى وأدى الامانة وقد روى عن الحسن أنه قال عاد عبيد الله بن الحسن معقلا في مرضه الذي قبض فيه فقال له معقل إني محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه يقول ما من عبد يستر عنه الله تعالى رعيته يموت يوم يموت غاشا لرعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة وروى زياد بن أبيه عن رسول الله ﷺ أنه قال من ولى من أمر المسلمين شيئا ولم يحطهم بالنصيحة كما يحوط على أهل بيته فليتبوأ مقعده من النار وقد حكى عن سفيان الثوري أنه عاتب رجلا من إخوانه قد كان هم أن يتلبس بشيء من أمر الولاية فقال يا أبا عبد الله إن على عيالا فقال له لأن تجعل في عنقك مخلاة تسأل على الأبواب خير لك من أن تدخل في شيء من أمور الناس وقد روى معقل بن يسار عنه ﷺ أنه قال رجلان من أمتي لا تنالهما شفاعتي إمام ظلوم غشوم وغال في الدين مارق منه وروى أبو سعيد الخدري أنه ﷺ قال أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر وروى عن النبي ﷺ أنه قال خمسة غضب الله تعالى عليهم إن شاء أمضى غضبه عليهم في الدنيا وإلا فمأواهم في الآخرة النار أمير قوم يأخذ حقه من رعيته ولا ينصفهم من نفسه ولا يدفع المظالم عنهم وزعيم قوم يطيعونه فلا يسوي بين الضعيف والقوي ويتكلم بالهوى ورجل لا يأمر أهله وولده بطاعة الله ولا يعلمهم أمور دينهم ولا يبالي ما أخذوا من دنياهم وما تركوا ورجل استأجر أجيرا فيستعمله ولا يوفيه أجره ورجل ظلم امرأة مهرها وقد روى أن عمر بن الخطاب خرج في جنازة ليصلي عليها فلما وضعت فإذا برجل قد سبق إلى الصلاة ثم لما وضع الرجل في قبره تقدم الرجل فوضع يده على التراب وقال اللهم إن تعذبه فربما عصاك وإن ترحمه فإنه فقير إلى رحمتك طوبى لك إن لم تكن أميرا أو عريفا أو كاتبا أو شرطيا أو جابيا قال ثم ذهب الرجل فلم يقدر عليه فأخبر عمر به فقال لعله الخضر ﷺ وروى عن مالك بن دينار أنه قال قرأت في بعض الكتب ما من مظلوم دعا بقلب محترق إلا لم تنته دعوته حتى تصعد بين يدي الله فتنزل العقوبة على من ظلمه أو استطاع أن يأخذ له فلم يأخذ له وروى أبو هريرة أنه ﷺ قال ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين قوم يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا وروى أبو بريدة عنه ﷺ أنه قال لا يؤمر رجل على عشيرة فما فوقهم إلا جئ به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه فإن كان محسنا فك عنه غله وإن كان مسيئا زيد غلا إلى غله. وهذا الخطر ثابت في أن يفرق الأمير بين نفسه وبين رعيته في الترفه بالمباحات فقد روى أن رسول الله ﷺ جلس يوم بدر في الظل فنزل جبريل فقال يا محمد أنت في الظل وأصحابك في الشمس وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال ويل لديان أهل الأرض من ديان أهل السماء يوم يلقونه إلا من أمر بالعدل وقضى بالحق ولم يقض بهوى ولا قرابة ولا رهبة ولا رغبة ولكن جعل كتاب الله مرآة بين عينيه وأقل الأمور حاجة الإمام إلى تخويف بحكم السياسة وقد روى ابن عمر أن النبي ﷺ قال من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها في غير حق أخافه الله تعالى بها يوم القيامة وروى أنس بن مالك أنه ﷺ قال يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الرب تعالى أنتم كنتم رعاة غنمي وخزان أرضى فيقول لهم ما حملكم على أن جلدتم فوق ما أمرتم فيقول أي رب غضبت لك فيقول أينبغي لك أن تكون أشد غضبا مني ويقول للآخر ما حملك على أن جلدت دون ما أمرت فيقول أي رب رحمته فيقول أينبغي لك أن تكون أرحم مني خذوا المقصر عن أمري والزائد على أمري فسدوا بهما أركان جهنم وبهذا الحديث يتبين أنه لا ينبغي أن نفزع إلا إلى الشرع وأنه لا شيء أهم للأئمة من معرفة أحكام الشرع وروى عن حذيفة أنه قال ما أنا بمثن على وال خيرا عادلهم وجائرهم فقيل له لم قال سمعت رسول الله ﷺ يقول يؤتى بالولاة يوم القيامة عادلهم وجائرهم فيقفون على الصراط فيوحي الله تعالى إلى الصراط فيزحف بهم زحفه يبقي جائر في حكمه ولا مرتش في قضائه ولا ممكن سمعه لأحد الخصمين مالم يمكن للأخر إلا زالت قدماه سبعين عاما في جهنم وروى أن النبي ﷺ كان يخرج متنكرا يطوف في الافاق يسأل داود فيهم فتعرض له جبريل ﷺ على صورة آدمي فسأله عن سيرته فقال جبريل نعم الرجل داود ونعم السيرة سيرته غير أنه يأكل من بيت مال المسلمين ولا ياكل من كد يده فرجع باكيا متضرعا إلى محرابه يسأل ربه تعالى أن يعلمه صنعة يأكل منها فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فذلك قوله تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم}.
هذا خطر الإمامة وفيها أحاديث كثيرة يطول إحصاؤها وهذا القدر كاف للبصير المعتبر وعلى الجملة فيكفي من معرفة خطرها سيرة عمر رضي الله عنه فأنه كان يتجسس ويتعسس ليلا ليعرف أحوال الناس وكان يقول لو تركت حربه على ضفة الفرات لم بطلا بالهنا فأنا المسئول عنها يوم القيامة ومع ذلك فقد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال دعوت الله تعالى اثنتى عشرة سنة اللهم أرني عمر بن الخطاب في منامي فرأيته بعد اثنى عشرة سنة كانما اغتسل واشتمل بالازار فقلت يا أمير المؤمين كيف وجدت الله تعالى قال يا أبا عبد الله كم منذ فارقتكم قلت منذ اثنتى عشرة سنه قال كنت في الحساب إلى الآن ولقد كادت تزل سريرتي لولا اني وجدت ربا رحيما فهذه حال عمر ولم يملك من الدنيا سوى درة فليعتبر به.
وقد حكى عن يزدجرد بن شهريار آخر ملوك العجم أنه بعث رسولا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمره أن ينظر في شمائله فلما دخل المدينة قال أين ملككم قالوا ليس لنا ملك لنا أمير خرج برا فخرج الرجل في أثره فوجده نائما في الشمس ودرته تحت راسه وقد عرق جنبه حتى ابتلت منه الأرض فلما رآه على حالته قال عدلت فأمنت فنمت وصاحبنا جار فخاف فسهر أشهد أن الدين دينكم ولولا أني رسول لأسلمت وسأعود بإذن الله تعالى.
ومنها أن يكون الوالي متعطشا إلى نصيحة علماء الدين متعظا بمواعظ الخلفاء الراشدين ومتصفحا في مواعظ مشايخ الدين للامراء المنقرضين ونحن نورد الآن بعض تلك المواعظ فأنه قد روى ان عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الاشعري أما بعد فإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته وإن اشقى الرعاة عند الله من شقيت به رعيته وإياك أن ترتع فترتع عمالك فيكون مثلك عند الله مثل بهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبتغي في ذلك السمن وإنما حتفها في سمنها وإنما قال ذلك لأن الوالي مأخوذ بظلم عماله وظلم جميع حواشيه فكل ذلك في جريدته وينسب إليه وقد روى انه أنزل في التوراة على موسى عليه السلام انه ليس على الإمام من ظلم العامل وجوره مالم يبلغه ذلك من ظلمه وجوره فإذا بلغه فاقره شركه في ظلمه وجوره.
وقد روي أن شقيق البلخي دخل على هارون الرشيد فقال له أنت شقيق الزاهد فقال له أما شقيق فنعم واما الزاهد فيقال فقال له عظني فقال له إن الله تعالى أنزلك منزلة الصديق وهو يطلب منك الصدق كما تطلبه منه وأنزلك منزلة الفاروق وهو يطلب منك الفرق بين الحق والباطل كما تطلبه منه وأنزلك منزلة ذي النورين وهو يطلب منك الحياء والكرامة كما تطلبه منه وانزلك منزلة علي بن أبي طالب وهو يطلب منك العلم كما تطلبه منه ثم سكت فقال له زدني قال نعم ان لله دارا سماها جهنم وجعلك بوابا لها واعطاك بيت مال المسلمين وسيفا قاطعا وسوطا موجعا وامرك ان ترد الخلق من هذه الدار بهذه الثلاث فمن أتاك من أهل الحاجة فاعطه من هذا البيت ومن تقدم على نهى الله فأوجعه بهذا السوط ومن قتل نفسا بغير حق فاقتله بهذا السيف بأمر ولى المقتول فإنك إن لم تفعل ذلك فأنت السابق والخلق تابع لك إلى النار قال زدني قال نعم أنت العين والعمال الأنهار إن صفت العين لم يصر كدر الأنهار وإن كدرت العين لم يرج صفاء الأنهار وقد حكى أن هارون الرشيد قصد الفضيل بن عياض ليلا مع العباس في داره فلما وصل إلى بابه سمع قراءته وهو يقرأ {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} فقال هارون للعباس إن انتفعنا بشيء فبهذا فدق العباس الباب وقال أجب أمير المؤمنين قال وما يعمل عندي أمير المؤمنين فقال أجب إمامك ففتح الباب وأطفأ سراجه وجلس في وسط البيت في الظلمة فجعل هارون يطوف حتى وقعت عليه يده فقال آه من يد ما ألينها إن نجت من عذاب الله يوم القيامة فجلس وقال يا أمير المؤمنين استعد لجواب الله تعالى يوم القيامة فإنك تحتاج أن تتقدم مع كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة فجعل هارون يبكي فقال العباس اسكت فقد قتلت أمير المؤمنين فقال يا هامان تقتله أنت وأصحابك وتقول لي أنت قتلته فقال هارون ما سماك هامان إلا وجعلني فرعون فقال له هارون هذا مهر والدتي ألف دينار تقبلها مني فقال يا أمير المؤمنين لا جزاك الله إلا جزاءك أقول لك ردها على من أخذتها منه وتقول لى خذها أنت فقام وخرج وقد حكى عن محمد بن كعب القرظى أنه قال عمر بن عبد العزيز صف لى العدل فقال يا أمير المؤمنين كن لصغير المسلمين أبا وللكبير منهم ابنا وللمثل أخا وعاقب كل واحد منهم بقدر ذنبه على قدر جسمه وإياك أن تضرب بغضبك سوطا واحدا فتدخل النار وقد حكى عن الحسن أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الهول الأعظم ومقطعات الأمور كلهن أمامك لم تقطع منهن شيئا فلذلك فاعدد ومن شرها فاهرب والسلام عليك وقد حكى أن بعض الزهاد دخل على بعض الخلفاء فقال له عظني فقال له يا أمير المؤمنين كنت أسافر الصين فقدمتها مدة وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا وقال أما إني لست ابكي على البلية النازلة ولكني أبكي لمظلوم على الباب يصرخ فلا يؤذن له ولا أسمع صوته ولكني إن ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس لا يلبس أحد ثوبا أحمر إلا متظلم ثم كان يركب الفيل في نهاره حتى يرى حمرة بباب المظلومين فهذا يا أمير المؤمنين مشترك بالله تعالى غلبت عليه رأفته ورحمته على المشركين وأنت مؤمن بالله تعالى من أهل بيت نبيه ﷺ كيف لا تغلب رأفتك بالمؤمنين وحكى أيضا أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأقام بها أياما فأرشد إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان يا أبا حام ما لنا نكره الموت ونحب الحياة {فقال} لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب فقال يا أبا حازم كيف القدوم على الله تعالى غدا فقال يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله واما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعري ما لي عند الله غدا قال أبو حازم اعرض عملك على كتاب الله تعالى حيث يقول إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال سليمان فأين رحمة الله قال {قريب من المحسنين} ثم قال سليمان يا أبا حازم أي عباد الله أكرم قال أهل المروءة والتقى قال أي الأعمال أفضل قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال فأي الدعاء اسمع قال دعاء المحسن إليه للمحسنين قال فأي الصدقة أزكى قال صدقة على السائل الناس وجهد المقل ليس فيها من ولا أذى قال فأي القول اعدل قال قول الحق عند من يخاف ويرجو قال فأي المؤمنين أكيس قال رجل عمل بطاعة الله تعالى وذكر الناس عليها قال فأي المؤمنين أفسق قال رجل أخطأ في هوى أحبه وهو ظالم باع آخرته بدنيا غيره قال سليمان فما تقول فيما نحن فيه فقال يا أمير المؤمنين أو تعفيني قال لا ولكن نصيحة تلقيها إلي قال يا امير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضا أحد حتى قتلوا وقد قتلوا قتلة عظيمة وقد ارتحلوا فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم فقال له رجل من جلسائه بئس ما قلت قال أبو حازم إن الله تعالى أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه فقال كيف لنا أن نصلح هذا الفساد فقال أن تأخذه من حله وتضعه في حقه فقال ادع لي قال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى فقال سليمان أوصني قال أوصيك وأوجز عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك وقد حكى عن أبي قلابة أنه دخل على عمر بن عبد العزيز فقال له يا أبا قلابة عظني فقال يا أمير المؤمنين إنه لم يبق من لدن آدم ﷺ إلى يومنا هذا خليفة غيرك قال له زدني قال أنت أول خليفة يموت قال زدني قال إذا كان الله معك فمن تخاف وإذا كان عليك فمن ترجو قال حسبي. وحكي عن سليمان بن عبد الملك أنه تفكر يوما فقال كيف تكون حالي وقد ترفهت في هذه الدنيا فأرسل إلى أبي حازم وقال تبعث إلى بذلك الذي تفطر عليه بالعشاء فأنفذ إليه شيئا من النخالة المقلية قال أبل هذا بالماء فأفطر به فهو طعامي فبكى سليمان وعمل ذلك في قلبه وصام ثلاثة أيام ما ذاق شيئا حتى فرع بطنه من مأكولاته ثم أفطر في اليوم الثالث بتلك النخالة فقضى أن قارب اهله تلك الليلة فولد له عبد العزيز بن سليمان ومن عبد العزيز عمر فهو واحد زمانه وذلك من بركة تلك النية الصادقة وحكي أنه قيل لعمر بن عبد العزيز ما كان بدء توبتك قال أردت ضرب غلام فقال لي يا عمر اذكر ليلة صحبتها يوم القيامة وحكى أن زاهدا كتب إلى عمر ابن عبد العزيز وقال في كتابه اعتصم بالله يا عمر اعتصام الغريق بما ينجيه من الغرق وليكن دعاؤك دعاء المنقطع المشرف على الهلكة فانك قد أصبحت عظيم الحاجة شديد الاشراف على المعاطب وقد حكي عن هارون الرشيد أنه قال للفضيل عظني قال بلغني أن عمر ابن عبد العزيز شكى إليه بغض عماله فكتب إليه يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد بعد النعيم والظلال فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائما ويقظان واياك أن يتصرف بك من عند الله فتكون آخر العهد منقطع الرجاء فلما قرأ الكتاب قدم على عمر فقال له ما أقدمك قال خلع قلبي كتابك لا وليت ولاية حتى ألقى الله تعالى وقد حكى عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسر حاف على الحصباء وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول يا رب أنت أنت وأنا أنا أنا العواد إلى الذنب وأنت العواد إلى المغفرة اغفر لي فقال لي يا بني انظر إلى جبار الأرض كيف يتضرع إلى جبار السماء وحكى أنه دخل رجل على عبد الملك بن مروان وكان يوصف بحسن العقل والأدب فقال له عظني فقال يا أمير المؤمنين إن للناس في القيامة جولة لا ينجو من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه قال فبكى عبد الملك ابن مروان ثم قال لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالا نصب عيني ما عشت أبدا وحكى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لأبي حازم عظني قال أضطجع ثم اجعل الموت عند راسك ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن فلعل الساعة قريبة وحكى أن أعرابيا دخل على سليمان بن عبد الملك فقال له تكلم يا أعرابي فقال يا أمير المؤمنين إني لمكلمك بكلام فاحتمله وان كرهته فإن وراءه ما تحب أن قبلته فقال يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من نرجو نصحه ونأمن غشه فقال الأعرابي إنه قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك حرب للاحرة سلم للدنيا فلا تأمنهم على ما امتحنك الله عليه فإنهم لن بألوا في الامانة تضييعا وفي الأمة خسفا وعسفا وانت مسئول عما اجترحوا وليسوا بمسئولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره فقال سليمان أما أنك يا عرابي قد سللت لسانك وهو اقطع من سيفك قال أجل يا أمير المؤمنين ولكن عليك لا لك وقد حكى أن صالح بن بشير دخل على المهدي وجلس معه على الفراش فقال له المهدي عظني قال أليس قد جلس هذا المجلس أبوك وعمك قبلك قال نعم قال فكانت لهم أعمال ترجولهم بها النجاة من الله تعالى قال نعم قال وأعمال تخاف عليهم بها الهلكة قال نعم قال فانظر ما رجوت لهم فأته وما خفت عليهم فاجتنبه قال قد أبلغت وأوجزت. وقد حكي أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعدا ومن الآخرة الإ قربا وعلى أثرك طالب لا تفوته وقد نصب لك علم لا تجوزه فما أسرع ما يبلغ العلم وما أقرب ما يلحق بك الطالب وما نحن فيه زائل والذي نحن صائرون إليه باق أن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ومنها أن تكون العادة الغالبة على والي الأمر العفو والحلم وحسن الخلق وكظم الغيظ مع القدرة فقد حكي أنه حمل إلى أبي جعفر رجل قد جنى جناية فأمر بقتله فقال المبارك بن فضالة وكان حاضرا يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثا سمعته من الحسن قال وما هو قال سمعت الحسن رحمه الله يقول إذا كان يوم القيامة جمع الناس في صعيد واحد فيقوم مناد ينادي من له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلا من عفا فقال خلوا عنه وحكى عن عيسى ابن مريم ﷺ أنه قال ليحيى بن زكريا ﷺ إذا قيل لك ما فيك فأحدث لله شكرا وإذا قيل ما ليس فيك فأحدث لله شكرا أعظم منه إذ تيسرت لك حسنة لم يكن لك فيها عمل وروى أبو هريرة أنه ﷺ قال ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. وحكي أن رجلا أتى إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إن خادمي يسيء ويظلم أفأ ضربه قال تعفو عنه كل يوم سبعين مرة وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين قال قلت بلى يا رسول الله قال تعطي من حرمك وتعفوا عمن ظلمك وتصل من قطعك وروى عن عمر بن عبيد الله أنه قال ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان إذا غضب لم يخرجه غضبه إلى الباطل وإذا رضى لم يخرجه رضاه عن الحق وإذا قدر لم يأخذ ما ليس له وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لا يغرنك خلق امرئ حتى يغضب ولا دينه حتى يطمع فانظر على أي جنبيه يقع وقد روى عن علي بن الحسين رضي الله عنهما انه خرج من المسجد فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال علي ابن الحسين مهلا عن الرجل ثم اقبل عليه وقال ما ستر عنك من امرنا لكثير الك حاجة نعينك عليها فاستحيا الرجل ورجع إلى نفسه فألقى أليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول أشهد انك من أولاد الرسل وقد روى عنه أيضا انه دعا مملوكا له مرتين فلم يجبه ثم اجابه في الثالثة فقال له اما سمعت صوتي قال بلى قال فما بالك لم تجبني قال أمنتك قال الحمد لله الذي جعل مملوكي بحيث يأمنني وقد حكى أنه جاء غلام لأبي ذر بشاة له قد كسر رجلها فقال له أبو ذر من كسر رجل هذه الشاة قال أنا قال ولم فعلت ذلك قال عمدا لأغضبك فتضربني فتأثم قال أبو ذر لأغيظن من حضك على غيظي فأعتقه وروى عنه أنه شتمه رجل فقال يا هذا إن بيني وبين الجنة عقبة فإن أنا جزتها فوالله ما أبالي بقولك وإن قصرت دونها فأنا أهل لأشر مما قلت وروى ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا يعتدن بشيء من عمله من لم تكن فيه تقوى تحجزه عن معاصي الله أو حلم يكفه عن السفه أو خلق يعيش به في الناس وثلاث من كان فيه واحدة منهن زوج من الحور العين رجل اؤتمن على أمانة خفية شهية فأداها من مخافة الله تعالى ورجل عفا عن قاتله ورجل قرأ قل هو الله أحد في دبر كل صلاة وثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن أكن خصمه أخصمه رجل أستأجر أجيرا فظلمه ولم يوفه أجره ورجل حلف بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ومن كفل ثلاثة أيتام كان كالذي قام ليله وصام نهاره وعدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى وقد روى عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب حبارا وما يهلك إلآ أهل بيته وروى ابن عباس عن علي رضي الله عنهما أنه قال أوصاني رسول الله ﷺ حين زوجني فاطمة رضي الله عنها خصوصا دون غيري فكان مما أوصاني به أن قال يا علي لا تغضب وإذا غضبت فاقعد واذكر قدرة الله تعالى على العباد وحلمه عنهم وإذا قيل لك اتق الله فاترك غضبك عنك وأرجع بحلمك وقد روى ابن عباس عنه ﷺ إن لجهنم بابا لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية الله وروى أن إبليس اللعين ظهر لموسى ﷺ فقال له يا موسى إنك الليلة تناجي ربك ولى إليك حاجة فاقضها وأنا أعلمك خصالا ثلاثا فيهن الدنيا والآخرة فقال له موسى ما هذه الخصال قال إياك والحدة فاني ألعب بالرجل الحديد كما تلعب الصبيان بالكرة (يا موسى اياك والنساء فاني لم أنصب قط فخأ اثبت في نفسي من فخ انصبه بامرأة) يا موسى اياك والشح فإني أفسد على الشحيح الدنيا والآخرة وروى عن رسول الله ﷺ أنه قال من كظم غيظا وهو يقدر على انفاذه ملأه الله ايمانا وأمنا ومن وضع ثوب جمال تواضعا لله وهو يقدر عليه كساه الله تعالى حلة الكرامة وحكي أن ذا القرنين لقى ملكا من الملائكة فقال له علمني عملا أزداد به إيمانا ويقينا فقال لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم إذا غضب وإذا غضبت فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب والبعيد ولا تكن جبارا عنيدا وقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال الويل لمن يغضب وينسى غضب الله تعالى عباد الله إياكم والغضب والظلم فإن عقوبتهما شديدة ومن غضب في غير ذات الله جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه وروى أبو هريرة أيضا أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ وقال يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب ولك الجنة قال زدني قال استغفر الله تعالى دبر صلاة العصر سبعين مرة بغفر الله لك ذنب سبعين سنة ليس لي ذنوب سبعين سنة قال فلآمك قال ولا لأمي قال فلأبيك قال ولا لأبي قال فلإخوانك وقد روى عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله وسلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار هذه قسمة ما أريد بها وجه الله قال ابن مسعود يا عدو الله لأخبرن رسول الله ﷺ قال فأخبرته فأحمر وجهه وقال رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
وهذا القدر الذي روى من الآثار والأخبار وسير الخلفاء وأئمة الأعصار كاف للمتعظ به وللمصغي إليه في تهذيب (الأخلاق ومعرفة) وظائف الخلافة فالعامل به مستغن عن المزيد والله ولي التوفيق.
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد الأولين والآخرين وعلى آله الطيبين الطاهرين. وقع الفراغ منه يوم السبت لسبعة عشر يوما خلت من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة.
نهاية مخطوط جامع القرويين بفاس: نجز بحمد الله تعالى وقوته كتاب المستظهري في فضائح الباطنية على يد الفقير المذنب الراجي عفو ربه أبو الحسن علي بن سعيد بن مسعود التملي اللهم اغفر له ولوالديه ولعشيرته ولجميع المسلمين يوم الجمعة الأول من ربيع الثاني عام واحد وثمانين وتسعمائة بمدينة فاس أدام الله خيرها وعمرها بالإسلام وصلى الله على نبينا وشفيعنا غدا محمد ﷺ وشرف وكرم وعز وعظم.
المستظهري في الرد على الباطنية
محتويات
- 1 الباب الأول في الإعراب عن المنهج الذي استنهجته في هذا الكتاب
- 1.1 المقام الثاني في التعبير عن المقاصد إطنابا وإيجازا
- 1.2 المقام الثالث في التقليل والتكثير
- 2 الباب الثاني في بيان ألقابهم والكشف عن السبب الداعي لهم على نصب هذه الدعوة
- 2.1 الفصل الأول في ألقابهم التي تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة
- 2.2 الفصل الثاني في بيان السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة وإفاضة هذه البدعة
- 3 الباب الثالث في درجات حيلهم وسبب الاغترار بها مع ظهور فسادها
- 3.1 الفصل الأول في درجات حيلهم
- 4 الباب الرابع في نقل مذاهبهم جملة وتفصيلا
- 4.1 الطرف الأول في معتقدهم في الإلهيات
- 4.2 الطرف الثاني في بيان معتقدهم في النبوات
- 4.3 الطرف الثالث بيان معتقدهم في الإمامة
- 4.4 الطرف الرابع بيان مذهبهم في القيامة والمعاد
- 4.5 الطرف الخامس في اعتقادهم في التكاليف الشرعية
- 5 الباب الخامس في إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم بالأمور العددية
- 5.1 الفصل الأول في تأويلاتهم للظواهر
- 5.2 الفصل الثاني في استدلالهم بالأعداد والحروف
- 6 الباب السادس في الكشف عن تلبيساتهم التي زوقوها بزعمهم في معرض البرهان على إبطال النظر العقلي وإثبات وجوب التعلم من الإمام المعصوم
- 6.1 المنهج الأول وهو الجملي
- 6.2 المنهج الثاني في الرد عليهم تفصيلا
- 7 الباب السابع في إبطال تمسكهم بالنص في إثبات الإمامة والعصمة
- 7.1 الفصل الأول في تمسكهم بالنص على الإمامة
- 7.2 الفصل الثاني في إبطال قولهم إن الإمام لا بد أن يكون معصوما من الخطأ والزلل والصغائر والكبائر
- 8 الباب الثامن في الكشف عن فتوى الشرع في حقهم من التفكير وسفك الدم
- 8.1 الفصل الأول في تكفيرهم أو تضليلهم أو تخطئتهم
- 8.2 الفصل الثاني في أحكام من قضي بكفره منهم
- 8.3 الفصل الثالث في قبول توبتهم وردها
- 8.4 الفصل الرابع في حيلة الخروج عن إيمانهم وعهودهم إذا عقدوها على المستجيب
- 9 الباب التاسع في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله
- 10 الباب العاشر في الوظائف الدينية التي بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة